حين توقفت عن مطاردة نفسي

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

لم يكن اندفاعي نحو الأمام سببه الحلم وحده، بل كان الخوف أيضا يمشي معي خطوة بخطوة. خوف من أن أتوقف، من أن يسبقني الآخرون، من أن أُوصَف بالقناعة قبل أن أُوصَف بالوصول. كنت أظن أنني أسابق الحياة، ولم أدرك أنني في الحقيقة أسابق نفسي. كل إنجاز كان يفتح شهية إنجاز آخر، لا لأنَّ الطريق جميل، بل لأنَّ الوقوف صار يبدو كخسارة. حتى تعبت، لا من الجهد، بل من الشعور بأنني مهما فعلت فلن يكون كافيا. وهناك فقط، بدأت أفهم أن بعض الطموح لا يقودك إلى ذاتك، بل يبعدك عنها إذا لم تضع له حدا.

كنت أعيش وكأنني في سباق لا يسمح لي فيه أن ألتفت، أرفع سقف التوقعات فوق رأسي ثم ألوم نفسي لأنها لم تلمسه بعد. لم أكن أحتفي بما أنجزت، لأنَّ العين كانت دائمًا على ما لم يأتِ بعد. كل محطة كانت تُختصر في سؤال واحد: وماذا بعد؟ حتى الفرح صار مؤقتا، والرضا صار مؤجلا، والراحة صارت مشروطة بإنجاز لا أعرف متى يكتمل. هناك فقط، بدأت أتنبه أن الطموح حين يفقد وجهته الإنسانية، لا يصنع نجاحا بقدر ما يصنع استنزافا صامتا، وأن النفس حين تُدفع طويلا بلا رحمة، لا تتقدم دائمًا، بل تتآكل من الداخل.

ولم يأت التغيير على هيئة صدمة، ولا كشف كبير يغير مجرى الحياة، بل جاء كإحساس صغير في داخلي، إحساس بأنني لست مضطراً لأن أُثبت شيئا في كل لحظة. بدأت أسأل نفسي للمرة الأولى: هل هذا الطريق يناسبني أم أنني أخوض فيه فقط لأنني اعتدت الخوض؟ هل حلمي هذا لي فعلا، أم هو انعكاس لأعين راقبتني طويلا؟ ومع كل سؤال، كنت أشعر بثقل يخف، وخطوات تهدأ، ومساحة صغيرة تتسع في صدري كأنها تقول إن الاستحقاق ليس سباقاً، وإن النجاح لا يقاس بالسرعة، بل بالسكينة التي ترافق الطريق.

التقيت برجل كان يوما ما من أكثر الناس اندفاعا نحو العمل والإنجاز، رجل قضى عمره كله في سباق مفتوح مع الوقت، لا يعرف التباطؤ، ولا يسمح لليوم أن يمر دون أن يستنزفه حتى آخره. كان حضوره في سنواته السابقة مرادفا للجداول المزدحمة، والقرارات العاجلة، والسهر الطويل، والغياب الدائم عن كل ما لا يحمل اسم "الضرورة". ثم جاء التقاعد، فجأة، كأنَّه باب أغلق خلفه دون أن ينتبه أنه كان آخر ممر للركض.

التقيته بعد سنوات، ففاجأني أنني أمام رجل آخر؛ ملامحه أكثر هدوءا، صوته أكثر بطئا، ونظرته لا تحمل ذلك التوتر العجول الذي كنت أعرفه فيه. سألته، فيما كنَّا نجلس بلا استعجال يسرق الحديث من أفواهنا: كيف وجدت هذا الهدوء الذي يكسو ملامحك الآن؟ ابتسم ابتسامة تشبه من عاد من طريق طويل، وقال: "لم أجده عندما كنت أقوى، وجدته عندما توقفت مجبرا".

حدثني كيف باغته الفراغ بعد التقاعد، وكيف شعر في بداياته أن الأيام بلا جدول صارت تشبه غرفة واسعة لا يعرف أين يضع نفسه فيها. قال لي: "في العمل كنت أؤدي، بعد التقاعد بدأت أرى"، ثم صمت قليلا وأردف: "اكتشفت أنني كنت أعيش لأنجز، لا لأحيا". تكلم عن صحته التي بدأت ترسل له إشارات الإنهاك بعدما انتهى كل شيء، وعن قلب تعلم الراحة بعد أن تعود التعب، وعن ذاكرة امتلأت بندم خفيف على لحظات مؤجّلة مع أهله وأبنائه ظن أنه سيعوضها يوما.

ثم قال جملته التي لا تزال عالقة في داخلي حتى الآن: "ربحت المديح طويلا، لكنني حين توقفت، اكتشفت أنني نسيت نفسي في الطريق".

وفي تلك اللحظة، لم أشعر أنني أسمع قصة رجل متقاعد فحسب، بل رأيت احتمالا مؤجلا لنسخة مني تمشي نحوي من المستقبل، نسخة تعلمت بعد فوات الأوان أن النجاح الذي يلتهم صاحبه ليس نجاحاً كاملا، وأن العمر الذي يمضي بلا التفات لا يعوضه هدوء متأخر.

بعدها، بدأت ألاحظ التغير في أشياء لم أكن أعدها جزءا من المعركة أصلا. في طريقة نومي التي صارت أهدأ، في مكالمات لم أعد أجيبها بدافع المجاملة، في أعمال كنت أؤجلها بلا شعور بالذنب، وفي أحلام لم أعد أهتم فيها وكأنها آخر فرصة للحياة. لم أعلن انسحابي من شيء، ولم أصفق لنفسي، لكنني ببساطة توقفت عن التعامل مع كل يوم وكأنه اختبار يجب أن أنجح فيه. لأول مرة، صرت أسمح لليوم أن يكون يوما فقط، بلا إثبات، بلا استعراض، بلا مطاردة خفية لنسخة مرهقة مني.

وبينما أتخفف من ذلك الثقل الذي لم أكن أراه، بدأت أكتشف مساحات كانت مخنوقة داخلي دون أن أشعر. مساحة للإنصات بدل التبرير، ومساحة للتريث بدل الاندفاع، ومساحة لأقول "لا" دون أن أقدّم شرحا طويلا. صار قلبي يعرف أين يقف وأين ينسحب، وصارت خطواتي أبطأ، لكن أكثر صدقا. لم أعد أتعامل مع الحياة كخصم يجب أن أهزمه، بل كشريك يحتاج أن أفهمه. وهنا فقط أدركت أن التوقف لم يكن هروبا من الطموح، بل إنقاذا له من الشراسة التي كدت أبتلِع بها نفسي.

وهنا، بدأت أرى نفسي بلا أقنعة. لا بوصفها مشروعا يجب إنجازه، ولا سيرة يجب أن تبهر أحدا، بل كإنسان يحق له أن يتعب، ويبطئ، ويختار طريقا أهدأ دون أن يشعر بالذنب. سقطت من داخلي أسئلة كثيرة كانت تستنزفني: لماذا تأخّرت؟ ولماذا لم أصل بعد؟ وحل محّها سؤال واحد فقط: هل أنا بخير الآن؟ هذا السؤال البسيط فعل بي ما لم تفعله كل إنجازاتي السابقة؛ أعادني إلي، لا إلى سباقي، وأعاد ترتيب المعنى في داخلي على مقاس الطمأنينة لا على مقاس التصفيق.

أدركت أنني لم أكن أحتاج أن أغير العالم لأرتاح، ولا أن أصل إلى قمة بعيدة لأشعر بقيمتي. كان يكفيني أن أتوقف عن معاملة نفسي كمطاردة، وأن أراها شريكا في الطريق لا خصما يجب أن أهزمه. فهمت أن بعض التعب لا يأتي من ثقل الطريق، بل من الطريقة التي نسير بها فيه، وأن أقسى ما يمكن أن نفعله بأنفسنا هو أن نعيشها كسباق مفتوح بلا استراحة. عندها فقط، صار للتقدم معنى إنساني، لا يلتهم صاحبه وهو يصعد.

ومنذ ذلك اليوم، لم أتخلَّ عن أحلامي، لكنني تعلمت أن أضعها في يد، وأضع قلبي في اليد الأخرى، وأمشي بهما معا دون أن أضحي بأحدهما من أجل الآخر. لم أعد أخوض لأن الخوف يطاردني، ولا أتوقف لأن التعب أسقطني، بل لأنني اخترت أن يكون السير خيارا لا اضطرارا.

وكأنني وجدت الطريق يلين تحت قدمي، والوقت يتسع لي بقدر ما ضيقته على قلبي من قبل. اكتشفت أن أجمل ما تصل إليه ليس قمة عالية، ولا إنجازا يصفق له الناس، بل لحظة تصافح فيها ذاتك أخيرا، دون خوف منها ولا عليها. لحظة تعرف فيها أن ما كتب لك لن يخطئك، وأن ما فوت عنك لم يكن لك. لحظة يصبح فيها قلبك خفيفا بما يكفي ليشير إلى أن السير هدية، لا اختبارا، وأنك لا تحتاج أن تركض لتصل، بل أن تنوي فقط، وتُسَلِّم، وتطمئن.

وما كتبته هنا، وإن خرج من تجربة، إلا أنه ليس حكاية فرد بعينه، ولا سيرة روح واحدة، بل هو لسان حال كثيرين يمشون تحت الأضواء بصمت، ويتعبون دون أن يعرفوا كيف يكتبون تعبهم، ويطمحون دون أن يجدوا اللغة التي تقول عنهم ما يختنق في صدورهم. وهذا النص ليس اعترافا شخصيا بقدر ما هو ترجمة لمشاعر مؤجلة في قلوب لا تجيد البوح، ولا تحسن أن تشرح لماذا تتعب أكثر مما تظهر.


فما الحياة يا صديقي إلا هذا القدر من السكينة الذي يستقر في روحك حين تعود إليك،
وتعلم - متأخّرًا بما يكفي-أنك لم تكن تفتقد الطريق، بل كنت تفتقد نفسك فيه.

 

الأكثر قراءة

z