الدرجة التي كسرت الشغف

 

 

 

سلطان بن محمد القاسمي

لم يكن الإيمان بالعدالة وليد تجربة متأخرة، كنت أعرف منذ البداية أن أقسى صورها حين تُمارَس داخل نظامٍ يُقيّد هامش الإنصاف.

وحين تجلس على كرسي المسؤولية، لا تجلس وحدك، يجلس معك ضميرك، وخوفك من الظلم، وخوفك الأكبر من أن تظلم وأنت تُحاول أن تكون عادلًا.

تخيّل نفسك مدير دائرة. أمامك عشرة موظفين. لا واحد منهم قصّر. لا واحد منهم تهرّب.

عشرة أسماء، وعشرة وجوه، وعشرة ملفات تحمل نفس الجملة تقريبًا: أنجز المطلوب، وربما أكثر.

تبتسم في داخلك، وتقول: هذا هو الفريق الذي يتمناه أي مسؤول. لكن النظام لا يبتسم معك. النظام يقول بهدوءٍ قاسٍ: لديك ثلاث فرص فقط لتقول "جيد جدًا". والبقية، "جيد".

هنا تبدأ المعاناة الحقيقية. ليس معاناة القرار، بل معاناة المعنى. تفتح الملفات مرة أخرى، لا لتبحث عن المقصّر، بل لتبحث عن فارقٍ لا يكاد يُرى. تحاول أن تقنع نفسك أن هناك فرقًا حقيقيا أن هذا الموظف أنجز أسرع وذاك كتب تقريرًا أجمل وآخر بادر بفكرة صغيرة. لكن الحقيقة المؤلمة أنك تعلم في داخلك أن الفارق لا يستحق أن يتحول إلى تصنيف.

تشعر أن يدك لا تقيم أداءً، بل تُعيد توزيع شعور. تشعر أنك لا تكتب نتيجة، بل ترسم أثرًا نفسيًا سيبقى طويلًا. تتخيل نظرة الموظف الذي سيقرأ "جيد" رغم أنَّه لم يُخطئ. لن يعترض بصوتٍ عالٍ، لن يكتب شكوى، لكن شيئًا ما سينكسر بصمت. ليس ثقته بك، بل ثقته بأنَّ الاجتهاد وحده ليس كافياً.

وفي الجهة الأخرى من المشهد، يقف الموظف الذي قرأ نتيجته بصمت. لم يتوقف طويلًا عند الكلمة، بل عند الإحساس الذي تبعها. تذكّر الأيام التي أنهى فيها عمله بعد الدوام، والرسائل التي أجاب عنها في أوقات لم يكن أحد يُراقبها، والمواقف التي سدّ فيها فراغًا لم يُطلب منه رسميًا أن يسدّه.

لم يشعر أنه خُذل، لكنه شعر أن جهده لم يُرَ كاملًا، وأن ما فعله ذاب في عمومية التقييم، كأن الاجتهاد حين يصبح عادة، يفقد قيمته في الميزان. لم يغضب، ولم يعاتب، بل بدأ شيء أخطر: بدأ يراجع نفسه. ليس ليتحسّن، بل ليتساءل: هل كان يجب أن أبذل كل هذا؟ هل كان عليّ أن أكون أقل التزامًا؟ أقل مبادرة؟ وهنا لا تنكسر الرغبة في العمل، بل تنكسر الرغبة في الزيادة. يؤدي المطلوب، نعم، لكن ذلك الشغف الصامت الذي كان يدفعه لأن يُعطي دون انتظار، يتراجع خطوة، وربما أكثر، دون أن يلحظ أحد. وهنا تبدأ الأسئلة التي لا تظهر في أي نموذج تقييم: هل العدالة أن أساوي بينهم رغم اختلاف الجهد؟

أمن العدالة أن أميّز بينهم رغم تشابه النتيجة؟ وهل المشكلة في الموظفين، أم في الأداة التي لا ترى إلا الأرقام؟ تُحاول أن تقنع نفسك أن "جيد" ليست إدانة لكنك تعلم أنَّ الإنسان لا يقرأ الكلمات كما تكتب بل كما يشعر بها. وأن التصنيف، مهما كان منطقيًا، يتحول في الوجدان إلى مُقارنة وفي المُقارنة يولد الصمت، لا التحفيز. تكتشف أن النظام لم يضعك في موقع القاضي فقط، بل وضعك في موقع من يشرح ما لا يمكن شرحه. كيف تقول لموظف مجتهد: أنت جيِّد، لكن غيرك: أفضل، دون أن تملك دليلًا إنسانيًا يُقنع قلبه قبل عقله؟ في تلك اللحظة، تفهم أن المشكلة لم تكن يومًا في فكرة القياس، بل في اختزال الإنسان داخل خانة. وفي تحويل الجهد اليومي إلى رقمٍ نهائي لا يحكي القصة كاملة. لا ترفض النظام، ولا تتمرد عليه، لكنك تشعر أنَّه يسبق وعي الواقع بخطوة. أنه يفترض أن الأداء خطوط واضحة، بينما الحقيقة أنه مساحات متداخلة، وجهود تُبذل في الصمت، وأدوار لا تُقاس لأنها ببساطة، تمنع الانهيار. حينها فقط، تتوقف عن مطاردة "التقييم المثالي"، وتبدأ بمطاردة شيء أعمق: كيف تحمي روح الفريق وأنت تعمل داخل إطار لا يرى الروح؟

تفهم أن المسؤول الحقيقي لا يعاني من الموظفين، بل يعاني حين يُطلب منه أن يختصر العدالة في ثلاث خانات فقط. وتدرك أن بعض الأنظمة لا تحتاج إلى إلغاء، بل إلى نَفَس إنساني أطول، يعرف أن التميّز لا يُقسَّم دائمًا، وأن الاجتهاد حين يعمّ لا يُعاقَب بالتفاوت.

ربما لن تُقال هذه المُعاناة في التقارير، لكنها تُكتب كل يوم في صدر مسؤولٍ يحاول أن يكون منصفًا داخل نظامٍ لا يمنحه كامل المساحة ليكون كذلك.

الأكثر قراءة

z