القلوب الطيبة.. ذهب لا يصدأ

 

 

 

صالح بن سعيد الحمداني

 

في زمنٍ تتسارع فيه الخطى، وتُقاس فيه العلاقات بميزان المصلحة، تبقى القلوب الطيبة كنسمةٍ دافئة تهبّ على أرواحنا فتُعيد إلينا شيئًا من إنسانيتنا المفقودة، هي القلوب التي تُعطي بسخاء دون انتظار مقابل، وتغفر دون أن تُذكّر، وتحبّ بصمتٍ كأنها تُصلّي من أجل العالم كله، تُشبَّه بالذهب لأنها لا تصدأ، وبالورود لأنها لا تذبل مهما عصفت بها رياح الحياة، الطيبة ليست سذاجة كما يظنّ البعض، وليست ضعفًا كما يتهمها الجاهلون، هي قوة القلب حين يختار النقاء في عالمٍ يزداد قسوة، أن تكون طيبًا يعني أن تُحافظ على صفاء روحك رغم ما تراه من غدر وخداع، أن تُصرّ على الخير حين يسخر الآخرون من بساطتك، وأن تؤمن بأن العطاء لا يُفقر صاحبه، بل يُغنيه من الداخل.

ومنذ فجر التاريخ، كانت الطيبة صفةً تُميّز الإنسان عن سائر المخلوقات، فهي تعبير عن إحساسٍ عميق بالآخر، وعن قدرة على التراحم والتعاطف، في مجتمعات اليوم التي طغت عليها الماديات، قد يبدو الطيبون غرباء، وكأنهم يسيرون عكس التيار، لكن وجودهم يظلّ ضرورة أخلاقية، فهم الذين يُعيدون للعلاقات الاجتماعية معناها الحقيقي، ويذكّرون الناس بأن القيمة لا تُقاس بالمال ولا بالمنصب وإنما بما تحمله القلوب من صدقٍ ونقاء، والقلوب الطيبة تصنع الأثر بصمت، فهي التي تواسي المهموم بكلمة، وتُسند المتعب بابتسامة، وتُربّت على كتف الضعيف حين يعجز الآخرون عن الفهم، لا تبحث عن الضوء، لكنها تُضيء الطريق لغيرها، وحين تُؤذى لا تردّ بالإساءة فردها بالصفح الجميل؛ لأنها تدرك أن الجرح يُشفى بالعفو، لا بالانتقام.

غير أن الواقع الاجتماعي المعاصر لا يُنصف دائمًا أصحاب القلوب البيضاء، في زمنٍ باتت فيه العلاقات تُدار كصفقات، قد يجد الطيب نفسه وحيدًا، أو عرضةً للاستغلال ممن لا يعرفون إلا لغة المصلحة، لذلك يرى بعض الناس أن الطيبة لم تعد تُجدي، وأن أصحابها كثيرًا ما يُخدعون، ولكن الحقيقة أن الطيبة ليست صفقة خاسرة، كما يظنها البعض وإنما موقفٌ إنسانيّ سامٍ لا يُقاس بنتائج آنية، هي لا تهدف إلى إرضاء الآخرين بقدر ما تهدف إلى إرضاء الضمير، الطيب يعيش سلامًا داخليًا لا يعرفه القساة؛ لأن قلبه لا يثقل بالأحقاد، ولا يتسخ بالكراهية، وربما لهذا السبب يُقال إن أصحاب القلوب الطيبة ينامون قريري العين، بينما يظلّ أصحاب القلوب السوداء يطاردهم صدى ضمائرهم.

من زاوية اجتماعية، تمثّل القلوب الطيبة قوة خفية تُحافظ على تماسك النسيج الإنساني؛ فهي تبث روح التعاون في البيوت، وتنشر السلام في العمل وتُخفف من حدّة الخلافات في الشوارع والمدارس والمؤسسات، الطيبة تُهذّب السلوك وتُنعش الروح الجماعية، وتشير دراسات اجتماعية عديدة إلى أن المجتمعات التي يسود فيها التعاطف ترتفع فيها مؤشرات السعادة، وتقل فيها معدلات الجريمة والعنف، فحين يشعر الإنسان أنه مُحاط بأناسٍ طيبين يمدّون له يد المساعدة بدلًا من يد الإدانة، يصبح أكثر استقرارًا نفسيًا وأكثر ميلًا إلى الإيجابية، هكذا تتحول الطيبة من صفة فردية إلى رأسمال اجتماعي لا يقلّ أهمية عن الاقتصاد أو التعليم، ومع ذلك لا بدّ من التفريق بين الطيبة الواعية والطيبة الساذجة؛ فالقلب الطيب لا يعني القلب الضعيف فهو يعني بكل تأكيد القلب الحكيم الذي يعرف متى يُعطي ومتى يتوقف، متى يُسامح ومتى يضع الحدود، والطيبة الحقيقية لا تُشجّع الظلم ولا تُبرّر الخطأ فهي تُصلح دون أن تبرّر الأذى، فالخير إذا لم يُقترن بالبصيرة قد يتحوّل إلى بابٍ يُفتح للآخرين ليعبثوا به، لذلك لا بدّ أن تُربّى الأجيال على أن تكون طيبةً بحكمة، رحيمةً بعدل، وعطوفةً بكرامة.

ومن الجانب النفسي، يبرهن العلم أن أصحاب القلوب الطيبة يتمتّعون بدرجة أعلى من الرضا عن الذات ومن التوازن العاطفي، لأنهم يعيشون وفق انسجام بين ما يقولون وما يفعلون، وبين ما يُظهرونه وما يُخفونه، فهم لا يحملون الحقد في قلوبهم، ولذلك لا يحملون ثقله على أكتافهم، الطيبة تُخفّف الضغط النفسي، وتُعيد للروح قدرتها على التجدّد، وتمنح للحياة معنى أعمق من المظاهر والماديات.

القلوب الطيبة ليست عملة نادرة كما يظن البعض، لكنها كنزٌ دفين يحتاج إلى من يُقدّره، قد تُرهقها الأيام وتُجرّحها التجارب، لكنها لا تتلوّن ولا تنكسر، فهي القلوب التي تزرع الأمل في أرضٍ قاحلة، وتُضيء الطريق في عتمةٍ طويلة، إنها الذهب الذي لا يصدأ، مهما تعرّض لرياح الخداع والخذلان، تظلّ لامعة، صافية، مُشرقة بالحب والإيمان، وفي عالمٍ يُعيد تعريف القيم كل يوم، تبقى الطيبة هي القيمة التي لا تحتاج إلى تعريف؛ لأنها تُعرّف نفسها بالفعل والابتسامة والصدق.

الأكثر قراءة

z