خالد بن حمد الرواحي
بين هذا وذاك تُروى حكايةُ كلِّ مسؤولٍ مرّ من هنا، وترك أثرًا أو لم يترك شيئًا. فالمناصب لا تُقاس بسنوات الخدمة، ولا بحجم الصلاحيات، بل بما تغيّر خلالها من واقعٍ أو فكرٍ أو إنسان. والفرق بين المدير والقائد ليس في المسمّى، بل في البصمة التي تبقى بعد الرحيل. المدير يُدير الملفات ويحافظ على النظام، بينما القائد يُغيّر الواقع ويصنع التغيير. فالأول يُسيّر العمل، والثاني يُحرّك العقول، ويُشعل في من حوله روحَ المبادرة والرؤية. ومن هنا يبدأ السؤال الذي لا يفارق القائد الحقيقي: ما الذي تغيّر حقًا بين يوم البدايات ويوم الوداع؟
حين يتسلّم أحدهم موقعًا إداريًا، لا يكون السؤال الحقيقي: ماذا أنجزت؟ بل: ماذا تغيّر؟ هل تطوّر المكان من حوله؟ وهل تحسّن أداء الفريق؟ وهل نشأت بيئةٌ أكثر كفاءةً وعدلًا وإنصافًا؟ فهذه الأسئلة البسيطة في ظاهرها هي التي تكشف عمق الفارق بين من يكتفي بالإدارة، ومن يقود التغيير. وانظر حولك قليلًا، فالإجابة لا تحتاج إلى تقاريرٍ ولا أرقام، بل إلى مشهدٍ واحدٍ صادقٍ يكشف ما تغيّر... وما بقي كما هو.
انظر إلى بيئة العمل التي تقودها وتأمّل تفاصيلها جيدًا؛ هل تغيّر فيها شيء منذ يوم تولّيك المسؤولية؟ هل ما زالت الممرات باهتة، والمكاتب مكتظة، والإجراءات معقّدة، والروح الإدارية جامدة؟ وانظر إلى فريقك، هل ازداد معرفةً وثقةً وقدرة؟ أم ما زال ينجز المهام نفسها بالطريقة نفسها، دون تطويرٍ أو وعيٍ بالغاية؟ هناك، في صمت التفاصيل، ستجد الجواب الحقيقي؛ فالقائد الحقيقي لا ينتظر الإجابات من الآخرين، بل يصنعها بفعله، ويتركها شاهدةً عليه بعد رحيله.
القائد الحقيقي لا يرحل كما جاء؛ يأتي ومعه فكرة، ويغادر تاركًا أثرًا. لا يكتفي بتسيير العمل اليومي، بل يُعيد تعريفه ويمنحه روحًا جديدة، ويخلق بيئةً تُنتج الكفاءة لا الطاعة، وتنمّي الأشخاص لا المهام. أمّا المدير الذي يغادر تاركًا كل شيء كما وجده، فقد مارس الإدارة لا القيادة، وأدار الزمن لا التغيير.
بين هذا وذاك مساحةٌ صغيرة في الزمن، لكنها واسعة في الأثر؛ فالقائد لا يقيس نجاحه بما حفظه من نظام، بل بما غيّره من واقع، ولا بما دوّنه من أرقام، بل بما طوّره من فكرٍ وأساليب. وحين يُعدّ صفًا ثانيًا من القيادات، ويترك منظومةً قادرةً على الاستمرار بدونه، عندها فقط يكون قد أدّى رسالته بصدق، وترك خلفه أثرًا يتحدث عنه دون كلمات.
القائد لا يُقاس بما ينجزه في التقارير، بل بما يتركه في النفوس؛ فكم من قراراتٍ تُنسى بعد توقيعها، وكم من أفعالٍ صغيرة تبقى في الذاكرة لسنوات. كلمةُ تشجيعٍ في وقتها قد تغيّر مسار موظفٍ كامل، وثقةٌ تُمنح في لحظة قد تصنع من موظفٍ عاديٍّ قائدًا في الغد. فالقيمة الحقيقية للقيادة لا تكمن في كثرة التعليمات، بل في عمق الأثر الإنساني الذي يخلّفه القائد فيمن حوله.
ليس مطلوبًا من كل مسؤولٍ أن يصنع ثورة، لكن من الظلم أن يمرّ دون بصمة؛ فالقيادة لا تعني أن تُنجز كل شيء بنفسك، بل أن تجعل الآخرين قادرين على الإنجاز من بعدك. أن تُخرج من تحت يدك من هو أقدر وأوعى، لا أن تُبقيهم أسرى تعليماتك، فحين يتطوّر من حولك تكون قد قُدت، وحين يبقون كما هم تكون قد أَدرت، والفرق بينهما هو الفارق بين من يصنع الأثر، ومن يكتفي بمتابعته.
قبل أن يُقيّمه الناس، على القائد أن يُقيّم نفسه بهذا السؤال البسيط: ما الذي تغيّر بين هذا وذاك؟ بين يومِ استلمتُ ويومِ سلّمتُ؟ فإن كان المكان قد تطوّر، والعقول قد نمت، والنظام قد استقام، فليطمئن أنه قاد ولم يُدِر، وإن بقي المشهد كما هو، فلا حاجة لشهادة أحد؛ فالإجابة يعرفها هو وحده، في مرآة ضميره. فالقيادة لا تُقاس بالمناصب، بل بما تغيّر بين هذا وذاك.
