صالح بن سعيد الحمداني
في مسرح العلاقات الإنسانية يظل الإنسان في رحلة دائمة من العطاء والتواصل يسعى إلى أن يمنح من حوله الحب والاهتمام والدعم، على أمل أن يلقى مقابل ذلك قدرًا مشابهًا من التقدير والوفاء؛ غير أنّ هذه المُعادلة لا تسير دائمًا كما نتمنى؛ فكم منّا قدّم أكثر مما يستطيع وانتظر من الآخرين أن يبادلونه بنفس السخاء ليكتشف لاحقًا أنّه قد خان نفسه قبل أن يخونه الآخرون حين حمّلهم توقعات لا قدرة لهم ولا رغبة في الإيفاء بها؛ فالعطاء في جوهره قيمة إنسانية نبيلة لكنّه يصبح عبئًا حين يرتبط بشرط خفيّ "انتظار المقابل"، كثيرون يظنون أنّ الحب والصداقة والتقدير يجب أن تُقابل بما يماثلها من الآخر لكن التجربة تثبت أنّ ميزان العلاقات ليس دائمًا عادلًا، هناك من يمنح بلا حساب وهناك من يأخذ بلا حدود، وبين الاثنين يولد الخذلان.
قد يكون العطاء غير المشروط فضيلة لكنّه يحتاج إلى وعي عميق بالذات، أن تعطي لأنّك تريد أن تعطي لا لأنّك تنتظر رصيدًا عاطفيًا يعود إليك، هنا فقط يصبح عطاؤك قوة داخلية لا قيدًا يكبّلك بالخيبة، فالزمن كفيل بكشف الوجوه الحقيقية في البداية، فقد يلبس بعض الناس أقنعة المودة والمحبّة يقدّمون أنفسهم في صورة مثالية، يبادلونك الكلمات الجميلة والوعود البراقة، لكن مع مرور الأيام وتكرار المواقف يبدأ ما هو زائف في التلاشي، تتضح معادن النفوس من يراك حقًا، ومن يستخدمك وسيلة لمصلحته.
التجربة الحياتية تثبت أنّ الأقنعة لا تدوم طويلًا، فلا يمكن لإنسان أن يتصنّع المودة إلى الأبد، عاجلًا أم آجلًا يظهر الوجه الحقيقي، وهذا الظهور قد يكون صادمًا ولكنه يحرر الإنسان من الوهم، فبدلًا من أن يظل عالقًا في دائرة التوقعات غير المنطقية يجد نفسه أمام الحقيقة العارية، وخيانة الذات أخطر من خيانة الآخرين، فحين نبالغ في التوقعات فإننا في الحقيقة نحمّل الآخرين مسؤولية إسعادنا وننسى أنّ سعادتنا الحقيقية تنبع من داخلنا، فخيانة الذات تكمن في هذا الرهان الخاطئ "أن نضع مفاتيح قلوبنا بأيدي الآخرين وأن نمنحهم سلطة تحديد قيمتنا".
الخذلان مؤلم لكنه ليس خطأ الآخرين دائمًا، فأحيانًا يكون نتيجة مباشرة لخيانتنا لذواتنا حين نرفض أن نرى العلامات المبكرة، أو نصرّ على تجاهل إشارات عدم التوازن في العلاقة، وقد سؤال يخطر ببال البعض كيف نستعد للرؤية قبل الصدمة؟ الوعي هو خط الدفاع الأول، أن تكون مستعدًا للرؤية يعني أن تُبقي عينيك مفتوحتين منذ البداية وأن تقرأ سلوك الآخرين أكثر مما تسمع كلماتهم، هناك عدة خطوات عملية تساعدك على تجنّب صدمة السقوط، أهمها قلّل من التوقعات كلما رفعت سقف توقعاتك من الآخرين زادت احتمالية خيبتك التوازن يكمن في أن تمنح دون أن تنتظر الكثير، ثم اختبر الأفعال لا الأقوال؛ فالأقوال قد تخدع لكن الأفعال تفضح، وانتبه لتصرفات الآخرين في المواقف الصغيرة فهي مؤشرات صادقة، واعتمد على ذاتك اجعل سعادتك مبنية على مصادر داخلية وهواياتك وإنجازاتك وقيمك لا على رضا الآخرين، وعليك تقبّل حقيقة الاختلاف ليس الجميع قادرًا على أن يحب أو يعطي كما تفعل الاختلاف في الطبع والتجربة لا يعني خيانة بالضرورة.
وأخيرًا.. مارِس التسامح الواعي، التسامح لا يعني الاستسلام للأذى؛ بل يعني إدراك أنّك لا تريد أن تحمل أثقالًا زائدة من الغضب، ورغم كل الصعوبات يظل هناك أشخاص يحملون لك حبًا حقيقيًا وسلامًا صادقًا، هؤلاء لا يسعون إلى استنزافك؛ بل يقفون إلى جانبك في أوقات قوتك وضعفك، وجودهم نادر لكنه ثمين، والأهم من العثور عليهم أن تكون أنت أيضًا ذلك الشخص الذي يمنح الآخرين حبًا وسلامًا بلا زيف.
إنّ أعظم خيانة قد يرتكبها الإنسان هي خيانته لذاته حين يضعها تحت رحمة توقعات من حوله، لكن الحكمة تقتضي أن نتعلم رؤية الوجوه الحقيقية مبكرًا وأن ندرك أنّ الزمن لا يخذلنا؛ بل يكشف لنا ما كنا نغضّ الطرف عنه؛ فالأقنعة ستسقط لا محالة وما يبقى هو الجوهر، من يحمل لك حبًا صادقًا سيظل ومن يلبس قناعًا زائفًا سيتلاشى، لذلك كن مستعدًا للرؤية، فالرؤية الواعية أجمل بكثير من صدمة السقوط.
