الجمعيات التعاونية.. الفكرة والمفكر

 

ناجي بن جمعة البلوشي

في خضم التحولات الاقتصادية العميقة التي تشهدها الساحة العالمية المتسارعة، نرى أنه لا زالت هناك عند البعض بقايا من الأفكار التقليدية يراد تطبيقها رغم كل مؤشرات الفشل التي سجلتها التجارب المحلية والإقليمية ومن هذه الأفكار العودة إلى تأسيس أو تفعيل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية.

ونحن هنا لنضع ما يجب علينا وضعه وليكون واضحا من الجوانب المختلفة ومنها الخروج من المسلمات بل وإعادة تقييم جذرية لمثل هكذا أفكار وتشكيلها إلى أفكار ترقى لحل أو حلحلة تحدٍ ما، وليس اختلاق تحد وإشكال لم يكن موجودا أصلا؛ فالجمعيات التعاونية الاستهلاكية التي طالما صُورت كأدوات مثالية لتحقيق العدالة الاقتصادية والتعاون المجتمعي، ربما باتت اليوم تواجه تساؤلات حاسمة حول جدواها وأثر إنشائها ودعهما بلا حدود.

في عالم تتسارع فيه ديناميكيات الأسواق المفتوحة والعولمة المتشابكة والفضاء الإلكتروني المفتوح وتفعيل اتفاقيات التجارة الحرة العابرة للقارات بين الدول والأقاليم، فإنه لا يمكن لنا التبصر في هذه الفكرة كفكرة جديدة مبتكرة؛ بل هي مسودة قديمة عُثر عليها في زمن آخر. ولا يمكن لنا إنكار أن الجمعيات التعاونية الاستهلاكية نشأت في سياق اجتماعي واقتصادي محدود؛ حيث كانت تُمثل رد فعل جماعي على اعتقاد سائد بوجود احتكار للأسواق وتحكُّم في غلاء الأسعار، وحينذاك هيمن على تلك الأفكار خطاب التضامن والتعاون بين أفراد المجتمع للتغلب على ما يلاقيه المجتمع من تحدٍ وإشكال، لكن هذا الخطاب انتهى فور غزو الاستثمارات المنافسة والمتطورة للعالم؛ بل وعندما وُضِع المستهلك والمستفيد أمام الخيارات المتعددة والتي لا حصر لها.

ومنذ ذلك الحين، أمسى المعتقد الذي كان سائدًا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بعيد المنال في بيئة اقتصادية مرنة لا حدود لها، خاصة وأن اليوم تحكمها قوانين العرض والطلب المتغيرة، والتنافسية الحادة، والانفتاح التجاري الذي أزاح الحواجز وحوَّل الأسواق المحلية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين عمالقة الاقتصاد العالمي. وإذا أردنا أن نتحدث بالصراحة المطلقة فإنه وفي هذا السياق نقول: تبقى فكرة “التعاون” و”الاقتصاد التعاوني” في الجمعيات من أجل النجاح على المنافسة، مجرد وَهْمٍ لا أكثر، ولسبب بسيط هو افتقارها إلى القدرة على المنافسة الفعّالة؛ فالجمعيات، مهما وُضعت لها كل ممكنات نبل أهدافها، إلّا أنها غالبًا ما تُعاني من بطء إداري مزمن وضياع في التركيز وانتهاء من السوق، وذلك لمحدودية مواردها، وعجز في مواكبتها الابتكار التكنولوجي والتطورات اللوجستية التي تتطلبها الأسواق الحديثة والخبرة التي تتجاوب فوراً مع ما يمكن أن يكون.

إنَّ الأسواق المفتوحة والعولمة، التي وفَّرت فُرصًا غير مسبوقة لتدفق السلع والخدمات، خاصة لأولئك الذين يملكون فروعًا أخطبوطية في الإقليم، وبها فَرضت معايير جديدة صارمة للنجاح: السرعة، والكفاءة، والابتكار، والقدرة على استيعاب حجم أكبر من العمليات الاقتصادية وانفتاح كبير للموارد والدعم.

وفي مواجهة هذه المعايير لا ولن يستطيع نموذج الجمعية التعاونية الاستهلاكية التقليدي أن يجابهه بل سيكون ضعيفًا لا محالة؛ بل وأكثر من ذلك، قد يتحول إلى عبء على أعضائه والمجتمع والاقتصاد برمته؛ ذلك لأنَّ الاعتماد على العضوية الطوعية والحوكمة الديمقراطية، رغم ما تحمله من قيمة أخلاقية مجتمعية أصيلة، إلّا أنه لا يتناسب مع متطلبات السوق الديناميكية التي تحتاج إلى قرارات سريعة ومستثمرة بشكل عقلاني بعيدًا عن التردد الجماعي. كما إن محدودية رأس المال المخصص لهذه الجمعيات، تجعلها غير قادرة على المنافسة مع الشركات الكبرى التي تستثمر مئات الملايين من الريالات، ومنها ما يُصرف خصيصًا على البحث والتطوير والتسويق واكتشاف سلاسل الإمداد العالمية.

وإذا أردنا أن نضع رأيًّا في الانفتاح الاقتصادي الذي تشهده السلطنة فإننا نرى من زاوية التنمية الاقتصادية، أن المضي قدمًا أو التوجه في تفعيل الجمعيات التعاونية الاستهلاكية ربما قد يحجب النظر في الحاجة إلى بناء مؤسسات اقتصادية أكثر كفاءةً وابتكارًا، وقادرة على التكيف مع متطلبات السوق العالمية. كما قد يخلق جانب التمكين المُفرِط وهمًا زائفًا بالاستقلالية الاقتصادية وسياسة السوق الحُر، مما يُعطِّل جهود تطوير البنية التحتية التجارية وتحسين بيئة الأعمال بشكل عام.

أما من الناحية الاجتماعية، فقد تسهم هذه الجمعيات في تعزيز بعض القيم الإيجابية مثل التعاون والتضامن المجتمعي، لكن ذلك لا يمكن أن يُغطِّي على محدوديتها في خلق فرص عمل ذات جودة، أو تعزيز الاقتصاد الحقيقي عبر الاستقطاب النوعي في ذات المجال، كما إنها ستقضي على ما تبقى من محال صغار المستثمرين في الحارات والمناطق الصغيرة. 

وعند تأملنا للتجارب المحلية السابقة لدى بعض الأجهزة والوحدات الحكومية التي قد أسست نماذج خاصة بأفرادها، نجدها قد تحوّلت مع الزمن إلى كيانات ذات هويّات مؤسسية ومسميات تجارية معروفة، فاذا اسقتنعنا بذلك، عندئذٍ لا تحتاج مثل هذه الأفكار إلى مراجعة نقدية عميقة، وبدلًا من التفكير فيها كنموذج اقتصادي مستقل، يجب إعادة توجيه الطاقات نحو بناء اقتصاد تنافسي يستوعب التطور العالمي، ويكفل تنمية اقتصادية مستدامة قائمة على الكفاءة والابتكار.

الأكثر قراءة