سقوطُ الإنسان.. من شرارةِ الحسد إلى نارِ الانتقام

 

 

 

سُلطان بن خلفان اليحيائي

 

﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾ (النساء: 54)

منذ بداية الخليقة، كان الحسدُ السقطةَ الأولى في مسيرة الإنسان. حين حسد إبليسُ آدمَ على ما آتاه الله من فضلٍ، كانت تلك الشرارة التي أخرجته من الجنّة، ثم نفث سمَّه في صدرَي أبَوَينا فزلّا، وغرسَ تلك البذرة في نسل البشر.

وما لبثت أن نبتت في صدر قابيل، حين حسدَ أخاه هابيل على رضوان الله وفضلِه، فارتفعت يدُه إلى قتل أخيه، فكان أوّلَ من روّى الأرضَ بدمٍ سببه الحسد.

ومنذ ذلك اليوم، صارت هذه متلازمةَ إبليس تختبرُ كلَّ قلبٍ على حِدة؛ في كل نفسٍ بذرةُ اختبار، إمّا تُثمر رضًا، أو تُنبِتُ حَسَدًا.

إشراقُ النورِ يُقابله شررُ الحسد

مع إشراق أنوار الرسالة المحمدية في مكّة، دبّ في صدور بعض قبائل قريش حريقُ الغيرة من بني هاشم، إذ اختار الله منهم نبيَّه صلى الله عليه وسلم.

لم يعترضوا على التوحيد بقدر ما اعترضوا على مكان النبوّة وامتيازاتها، وكأنّ الفضل لا يجوز أن يخرج من بين أهلهم.

لقد أعمى الحسدُ بصائرهم، فصار يُفسد الفرح ويشوّه القلوب، حتى تحوّل إلى داء المقارنة والحقد على الفضل الإلهيّ.

ومن الحسدِ ما يجرُّ إلى الانتقام

وأنا أتصفح “اليوتيوب” شدّني عنوان قصة تاريخية عن القائد المظفّر السلطان سيف الدين قطز.

بينما أقرأ الأحداث وأتأمل كيف انحنت أمامه جحافل المغول في معركة عين جالوت، وكيف برز اسمه بين القادة، بدا لي كيف استعر الحسد في قلب الظاهر بيبرس لمحبّة الناس للمظفّر ورفعة شأنه.

طلب بيبرس من قطز أن يولّيه حلب، فأجابه المظفّر بحكمة القائد الأمين: “حلبٌ يتولاها أهلُها”، وكانت تلك الكلمة كشرارةٍ في صدر بيبرس، فأضمرها غلًّا حتى خان العهد، واستدرج قطز إلى خيمته، وهناك غرس خنجرَ الغدر في صدره، ليغتصب السلطنةَ والجيش، وليترك للأجيال درسًا: أن الحسدَ إن لم يُطفأ بالإيمان، أضرمَ نارَ الانتقام.

وليس ذلك بغريبٍ على من أضناهُ الطمعُ في العلوّ؛ فكم من أسرٍ تفرّق دمُها بين الورثة، وكم من عروشٍ ارتفعَ بناؤها على خنجرِ الأخ لأخيه!

إنّ الحسدَ إذا لم يُكبح بالإيمان، قاد صاحبه إلى الانتقام ولو كان المقتولُ من لحمه ودمه.

حسدٌ يُغيّبُ الحقَّ ويُزهقُ المالك

في مثالٍ من واقع الحياة، حصل شخصٌ من عامة الناس على عقدٍ لاستثمار أرضٍ حكومية تمثّلت في محجرٍ جبليّ.

ومع قلّة خبرته، لجأ إلى شراكة مع رجالٍ لهم باعٌ تجاريٌّ ومعرفيّ، ومن أسرةٍ معروفةٍ بمكانتها في المجتمع، على أمل أن يُثمر المشروع ماديًّا وإجرائيًّا بمتابعة الجهات المختصّة.

لكنّ القلوبَ المصابةَ بداءِ الحسدِ لم تُعرِ الضميرَ الإنساني اهتمامًا، ولم تُقدّر القيم والأخلاق.

غدر الشركاءُ بالمالك، وزوّروا الأوراقَ الرسمية، فانتهت الملايين في جيوبهم ظلمًا وسُحتًا.

ولمّا لجأ إلى المحاكم لاسترداد حقّه، باع الشركاءُ الشركةَ لعاملٍ أعطَوه المقسوم، فغادرَ هذا العاملُ إلى بلاده تاركًا المالكَ يتخبّط بين أروقة المحاكم، باحثًا عن جزء يسير من حقوقه لدفع ما ترتب عليه من إشكالات مالية ومديونيات مستوجبة الدفع لجهات رسمية متعددة.

إنّ الحسدَ، إن لم يُكبح، يُحوّل القلوب إلى أدوات للظلم، ويزرع الانتقام في أعماق البشر، فتأكل هذه النار الضمير أولًا قبل الآخرين.

﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء: 10)

حتى في ساحاتِ القلم

ولعلّ الميدان الثقافي من أكثر الميادين إصابةً بهذا الداءِ.

كم من كاتبٍ يطعن في آخر لمجرّد أنّ الأضواء انتقلت إليه!

وكم من أقلام تجتمع على الحسد، فإذا بزميلٍ جديد يسطع اسمه بين الناس ويجد قبولًا، تراهم يهمزون ويلمزون، ويشيعون أنّه لم يكتب بنفسه، أو استعان بوسائل حديثة للحصول على المعلومة.

وهل سأل أولئك أنفسَهم: أليس الباحث في الرسائل الجامعية يستعين بالمصادر والمراجع، كما يستعين أبناء هذا العصر بالمواقع الإلكترونية والوسائل الذكية؟!

أي منطق هذا الذي يزدري الوسيلة ويتجاهل الفضيلة!

إنّ قيمة الكاتب لا تُقاس بعدد مراجعِه، بل بصدق فكره، ونقاء قلمه، وقدرته على النفاذ إلى عقول الناس ووجدانهم.

الحسدُ، إذن، ليس مجرّد مشاعر خفيّة تتوارى في الصدور؛ بل داء إذا استُسلم له خرّب العلاقات، وطمس الضمائر، وبدّل العدل انتقامًا.

فما أشدّ سقوط الإنسان حين يغلبه الحسد فينحدر من مرتبة الخلق إلى درك الانتقام!

أيُّها الحاسدُ، اتَّقِ اللهَ في نفسِك وفي ذريّتِك من بعدِك؛ فالرزقُ بيدِ الله، وهو المُعطي وهو المانع، وإنّ ما كُتِب لك لن يأخذه غيرُك، وما لم يُكتب لك فلن تبلُغهُ بحسدٍ ولا بمكرٍ.

﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ (النساء: 9).

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة