حمد الصبحي
بهذا المدخل، ونحن نتوسل الأمل، يكون الطريق أمامنا أكثر اتساعًا، في أن نحول الفكرة إلى مهنة، والمهنة إلى حلم، يصبح الإبداع حينها مسارًا للحياة، لا مجرد خطوة وظيفية أو محطة عابرة. في زمنٍ تتسارع فيه التحوّلات، وتتقاطع فيه المعرفة بالتقنية، والابتكار بالذكاء الاصطناعي، ظهر الملتقى الخليجي لتمكين مؤسسات التدريب المهني في الابتكار وريادة الأعمال وإدارة الحاضنات كمنصّةٍ استراتيجية تهدف إلى وضع العقل الخليجي في قلب العصر، لا على هامشه. لم يكن الملتقى مجرد تكرارٍ لما قيل في مؤتمراتٍ سابقة، بل جاء ليؤسس لوعيٍ جديد، يؤكد أن المستقبل لا يُورث، بل يُصنع عبر الرؤية والإرادة والعمل المتواصل.
شهد الملتقى تحوّل المؤسسات التدريبية من مجرد قاعاتٍ تعليمية وأدواتٍ تدريبية إلى منصّات ابتكار ومساحات وعي ومصانع أفكار، حيث تتلاقى المعرفة بالتطبيق، والحلم بالمهارة، لتولد بيئة تعليمية تتجاوز تعليم المهارات التقليدية إلى خلق جيلٍ قادرٍ على صناعة فرصه بنفسه، وتحويل أفكاره إلى مشاريع حقيقية تلامس الواقع الاقتصادي والاجتماعي. لم يعد التدريب المهني طريقًا إلى وظيفةٍ فحسب، بل أصبح بوابةً لإطلاق روح الريادة لدى الشباب، وصناعة الوظائف بدل انتظارها، وتحويل المهنة إلى تجربةٍ حياتية غنية، تمزج بين الفن والإتقان والمسؤولية.
وتعكس الحاضنات التي أُنشئت في إطار الملتقى أكثر من مجرد بيئةٍ لإطلاق المشاريع، فهي مصانع للثقة والإبداع، تُنبت لدى الشباب ثقةً بفكرهم، وتزرع لدى المجتمع ثقةً بقدراتهم، وتؤكد لدى الوطن ثقته بأبنائه. إدارة الحاضنات لم تعد عملًا إداريًا روتينيًا، بل فعل رعايةٍ ورؤيةٍ يمتد ليجعل الشباب قادرين على مواجهة التحديات وتحويل كل فكرةٍ إلى مشروعٍ ناجح، مستندين إلى وعيٍ وإبداعٍ ومهارةٍ متصلة بالواقع الخليجي ومتطلبات العصر. ومن رحم التدريب والابتكار تنطلق الأفكار القادرة على خلق حياةٍ أكثر استدامة وإنسانية، حيث تصبح الإنجازات المهنية ترجمةً حقيقيةً للقيم، وتصبح المبادرات الصغيرة محركاتٍ للتغيير الاجتماعي والاقتصادي.
وأظهرت فعاليات الملتقى أن الوحدة الخليجية في الرؤية والهدف ليست شعارًا، بل استراتيجيةً عملية، إذ تمثل منصّةً تجمع بين دول مجلس التعاون لتوحيد الجهود نحو تمكين الشباب والابتكار، وتحويل الطاقات الفردية إلى مشاريع جماعية متكاملة تسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعزز التنافسية الإقليمية. التعاون بين الدول، كما أظهر الملتقى، هو مسارٌ حضاريّ يوسّع الرؤية، ويكسب الشباب خبراتٍ متعددة، ويخلق فرصًا أوسع للابتكار وريادة الأعمال، ويجعل من الخليج مجتمعًا موحدًا في أهدافه التنموية ومبادراته المستقبلية.
وأظهر الملتقى كذلك أن الاستثمار في التدريب المهني والابتكار ليس مجرد أرقامٍ أو برامج مؤقتة، بل هو استثمارٌ في الإنسان والمستقبل، وفي قدرته على مواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص، وتحويل كل فكرةٍ إلى مشروعٍ قائمٍ على المعرفة والإبداع. وقد أصبح من الواضح أن المهارات وحدها لا تكفي، بل يحتاج الشباب إلى وعيٍ وثقةٍ وإمكاناتٍ تمكّنهم من التعامل مع تحديات العصر المعقدة والمتسارعة. فالنجاح في عالم اليوم يتطلب قدرةً على التفكير النقدي، والإبداع، واتخاذ القرار، والقدرة على الابتكار في كل مجالٍ يمسّ حياة الناس، سواء في القطاع الصناعي أو التقني أو الاجتماعي.
ومن رحم هذا الملتقى برزت رؤيةٌ جديدة تربط بين المهارات الفنية والريادة الاجتماعية، حيث تصبح كل خطوةٍ تعليميةٍ أو مشروعٍ ناشئ جزءًا من نسيجٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ أكبر، يسهم في تعزيز الاستدامة، وتطوير المجتمعات، وتمكين الشباب من لعب دورٍ فاعلٍ في بناء مستقبلهم ومجتمعهم. وأصبح واضحًا أن التدريب المهني في هذه البيئة لم يعد مجرد إعدادٍ للأيدي العاملة، بل صناعةً للإنسان الواعي والمبتكر والمتمكن، الذي يمتلك القدرة على تحويل كل تجربةٍ إلى معرفة، وكل فكرةٍ إلى مشروعٍ يؤثر في محيطه بشكلٍ إيجابي.
ويخلص الملتقى إلى تأكيد أن اليد التي تُتقن العمل هي ذاتها التي تكتب المستقبل، وأن الخليج لم يعد يبني مؤسساتٍ فحسب، بل يبني ثقافةً جديدة للتمكين والإبداع، حيث تتلاقى الموهبة مع الفكرة، والمهارة مع الحلم، والعلم مع القيم. وعندما تتحد هذه العناصر، يصبح الوطن بأسره مشروعًا رياديًا كبيرًا، والمستقبل أقرب مما نتصور، وأجمل مما نحلم، معززًا بالقدرة على الابتكار والإبداع، وبروح العمل المشترك والثقة المتبادلة بين الشباب والمؤسسات والمجتمع.