الجمعيات التعاونية.. رافعة اقتصادية للفرد والمجتمع العربي

 

 

 

أميمة بوخليفي **

 

في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية المُتزايدة التي تُواجه الدول العربية، أصبح من الضروري البحث عن نماذج اقتصادية مبتكرة تجمع بين التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. وتبرز الجمعيات التعاونية كأحد أبرز هذه النماذج؛ إذ تقوم على مبدأ الملكية المشتركة والإدارة الجماعية، ما يجعلها أداة فعّالة لتمكين الأفراد اقتصاديًا واجتماعيًا، وتنشيط الاقتصاد المحلي بطرق مُستدامة.

لقد برز العمل التعاوني كآلية بديلة تسهم في تحقيق التنمية الشاملة وتعزيز العدالة الاجتماعية. فالتعاونيات لا تقتصر على الدور الإنتاجي فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى بناء شبكات من التضامن الاجتماعي تُمكّن الفئات الهشة من الاندماج الفعلي في الدورة الاقتصادية والاجتماعية.

وعلى الصعيد الاجتماعي، تسهم الجمعيات التعاونية في ترسيخ قيم التضامن والمسؤولية المشتركة بين الأفراد، إذ تعمل على تعزيز الروابط داخل المجتمع المحلي، وتشجع على المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار. كما تحفّز الأفراد على العمل الجماعي بدلًا من المنافسة الفردية، ما يخلق بيئة اجتماعية متماسكة قائمة على الثقة والتكافل. وتُعدّ هذه الأبعاد الاجتماعية رافعة أساسية لبناء مجتمع متوازن ومستقر.

وتبرز هذه الأدوار بوضوح في تجربة التعاونيات النسائية بالمغرب، مثل تعاونية "تازناخت" للحرف التقليدية، التي ساعدت مئات النساء على تسويق منتجات الزرابي (السجاد التقليدي) والأقمشة اليدوية في الأسواق العالمية، مما عزّز استقلاليتهن الاقتصادية، وأعاد الاعتبار للحرف التراثية كمصدر دخل مستدام.

أما في الجانب الاقتصادي، فتُعد التعاونيات من الركائز الأساسية للتنمية المحلية، إذ توفر فرص عمل مستقرة، وتدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتسهم في تحقيق الأمن الغذائي من خلال الإنتاج المحلي والتوزيع العادل للموارد. كما تُمكِّن المجتمعات من مواجهة التقلبات الاقتصادية وتخفيف آثار الأزمات عبر تقاسم المخاطر والمنافع.

ومن التجارب المُلهمة في هذا المجال الجمعيات التعاونية الزراعية في لبنان، التي مكّنت المزارعين من توحيد جهودهم لتسويق المنتجات العضوية محليًا وخارجيًا، مما ساهم في تحسين المردودية ورفع الدخل الفردي. ويمكن أيضًا الإشارة إلى تجربة جمعية النور التعاونية في مصر، التي ساعدت صغار الفلاحين على خفض تكاليف الإنتاج وتحسين عمليات التسويق، وهو ما انعكس إيجابًا على مستوى المعيشة في المناطق الريفية. كما برزت الإمارات العربية المتحدة من خلال دعمها للتعاونيات في مجالات المشاريع الصغيرة والخدمات، الأمر الذي ساهم في خلق فرص عمل مستدامة وتعزيز تمكين الشباب والمرأة اقتصاديًا.

غير أن استمرارية النشاط التعاوني في العالم العربي تتطلّب رؤية استراتيجية عميقة تتجاوز حدود الدعم المالي أو التنظيمي؛ فالتحدي الحقيقي يكمن في خلق بيئة ديناميكية قادرة على تحفيز الأعضاء وضمان استمرارية التفاعل داخل الجمعيات. ويجب أن يشمل التحفيز، إلى جانب المكافآت المادية، تقدير الجهود الفردية والجماعية ومنح الاعتراف الرمزي والمعنوي لكل مساهمة.

كما يستدعي الأمر إدماج مفهوم التعلّم الجماعي المستمر داخل التعاونيات، من خلال برامج تطوير ذاتي وتبادل الخبرات، وربط الجمعيات بشبكات تعاون إقليمية لتبادل المعرفة والتجارب الناجحة. ومن الوسائل الحديثة التي تعزز هذا المسار التحول الرقمي؛ إذ يمكن للتكنولوجيا أن تسهم في توسيع قاعدة الأعضاء، وتحسين التواصل الداخلي، وضمان الشفافية، وتعزيز ثقة المستهلكين، فضلًا عن تسويق المنتجات والخدمات عبر المنصات الإلكترونية.

وعلى مستوى السياسات العمومية، فإن اعتماد نهج تحفيزي متجدّد من قبل الحكومات يشكّل رافعة محورية لتطوير القطاع التعاوني، من خلال تشجيع التمويل التشاركي، وإنشاء فضاءات دائمة للتنسيق والتواصل بين التعاونيات. كما أن الشراكات الثلاثية بين القطاع التعاوني والقطاعين العام والخاص، قادرة على نقل التعاونيات من نطاق محدود إلى فاعل تنموي رئيسي يسهم في بناء اقتصاد اجتماعي تضامني.

إن الاستثمار في الهوية والقيم التعاونية يُعدّ أيضًا ركيزة أساسية؛ إذ ينبغي أن تتحول الجمعيات إلى مدارس للمواطنة الاقتصادية، تُرسّخ قيم التعاون والتضامن والمسؤولية الاجتماعية لدى الأجيال الجديدة عبر المناهج التعليمية وبرامج التوعية.

الجمعية التعاونية ليست مجرد كيان تنظيمي؛ بل هي كيان اجتماعي نابض بالحياة يستمدّ قوته من ثقة أعضائه، ويضعف حين تغيب روح المبادرة والمسؤولية المشتركة. وإذا ما أُدركت هذه الحقيقة وتمت مأسَسة ثقافة التعاون على نحو مستدام، فإنَّ الجمعيات التعاونية قادرة على التحول من مبادرات محلية محدودة إلى قوى فاعلة في التنمية الشاملة، تُسهم في تعزيز النسيج الاقتصادي والاجتماعي على أسس العدالة، والتكافل، والاستدامة.

** باحثة تنموية مغربية

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة