صالح بن سعيد الحمداني
في زمن يطغى فيه صخب المُدن وتزدحم فيه الشوارع بالركض اليومي وراء لقمة العيش وتحقيق الطموحات حيث يبدو أنَّ هناك رسائل صامتة تمرّ من حولنا دون أن نلتفت إليها؛ رسائل مكتوبة بلغة الجمال البسيط الذي لا يعرف الزخرفة ولا يطلب ضجيجًا ليُعلن حضوره، ذلك الجمال الذي يطلّ فجأة في لحظة عابرة فيجبرنا على التوقف ولو لبرهة، لنتأمل كيف تصرّ الطبيعة دائمًا على أن تعلّم الإنسان دروسًا في الحياة من دون أن تنطق بحرف واحد.
أكثر ما يدهش في الطبيعة هو قدرتها على المزج بين الهشاشة والقوة في لوحة واحدة، فزهرة صغيرة قد تولد في قلب صخرة قاسية، تنمو في صمت وتقاوم الرياح والأمطار دون أن تفقد ألوانها الزاهية أو عبيرها الرقيق، وكأنَّها تقول لنا "إنَّ البقاء ليس دائمًا للأقوى بالمعنى المادي ولكنه للأكثر إصرارًا على الاحتفاظ بجوهره مهما عصفت به الظروف"، هذه المُفارقة بين الرقة والصمود تمنحنا نحن البشر دروسًا عميقة ربما تغيب عنَّا وسط انشغالنا المُستمر بما نعتقد أنَّه الأهم.
فكم من مرة مررنا بجانب مشهد بسيط كهذا دون أن نمنحه حقه من الدهشة؟ الحقيقة أننا كثيرًا ما نُهمل التفاصيل الصغيرة التي تصنع للحياة طعمًا مُختلفًا، نحن نلهث خلف إنجازات كبرى ونبحث عن النجاحات الصاخبة وننسى أن لحظات السكينة والتأمل هي ما يمنح الروح توازنها الحقيقي، الطبيعة تعرف ذلك جيدًا ولذلك تقدّم لنا دائمًا لوحات فنية مجانية وتُعلّمنا كيف يُمكن للجمال أن يُولد من أبسط الأشياء وكيف يمكن للأمل أن يطلّ في أشد اللحظات قسوة، ولعلَّ أجمل ما في هذه اللوحات الطبيعية أنها عابرة لكنها في الوقت ذاته خالدة في تأثيرها، فزهرة قد تذبل بعد أيام ولكنّها في لحظة تفتحها الكاملة تترك أثرًا عميقًا في القلب والعين معًا، الأمر يشبه الحياة نفسها قصيرة، متقلبة، لكنها تمنحنا لحظات من البهاء تكفي لنؤمن بأنَّ العيش يستحق كل هذا العناء، وربما هنا يكمن السرّ في أنَّ أجمل الأشياء هي تلك التي لا تدوم طويلًا لأنها تدفعنا إلى التمسك بها أكثر وتقديرها قبل أن ترحل، وهذا الجمال الصامت يُذكّرنا أيضًا بأنَّ القوة لا يكمن في السيطرة وإنما في القدرة على التكيّف مع التَّحديات دون أن نفقد هويتنا.
الطبيعة بالمرونة تقاوم العواصف لا بالقسوة، والأغصان تنحني تحت المطر، ولكنها تعود لتنتصب شامخة بعد أن تجفّ الأرض، الأنهار كذلك تغيّر مجاريها أحيانًا لكنها لا تتوقف عن الجريان، وحتى الزهور على صغر حجمها تعرف كيف تواجه الرياح دون أن تفقد ألوانها الزاهية، أليست هذه كلها دروس لنا نحن الذين نتصوّر أنَّ القوة تعني الصلابة المطلقة؟ إن في هذا المشهد درسًا إنسانيًا عميقًا أن نحتفظ بجمالنا الداخلي مهما كانت التحديات، أن نتعلم كيف نكون لطفاء من دون أن نكون ضعفاء وكيف نواجه قسوة الحياة من دون أن نفقد حساسيتنا تجاه الجمال، فالعالم بكل ما فيه من ضجيج وحروب وأزمات لا يزال بحاجة إلى هذه المساحات الصغيرة من الرقة وإلى هذه اللمسات التي تجعل القلوب أقل صلابة وتجعل العيون تبصر ما هو أبعد من الواقع المُباشر.
ربما علينا وسط هذا الركض المحموم وراء الماديات أن نتوقف للحظة لنلتفت إلى ما تهمسه لنا الطبيعة كل يوم "أن الحياة ليست صراعًا أبديًا من أجل البقاء فقط إنما هي أيضًا فنّ للعيش وفرصة لاكتشاف الجمال في التفاصيل التي تبدو عابرة لكنها تحمل في طياتها معنى الاستمرارية والدهشة معًا"، إننا في حاجة ماسّة إلى إعادة النظر في علاقتنا مع هذه التفاصيل لا لأنها تمنحنا المُتعة الجمالية فحسب بل لأنها تذكّرنا بإنسانيتنا وتجعلنا نعي أن ما يبقي العالم قابلًا للعيش ليس التكنولوجيا وحدها ولا الاقتصاد ولا السياسة ولكن هناك المساحات الصغيرة من الصفاء التي تمنح الروح القدرة على الاستمرار، في النهاية ربما يكون السرّ كله في أن نتعلم من الطبيعة كيف نُزهر من جديد مهما كانت الأرض من حولنا قاحلة.