د. أحمد بن موسى البلوشي
كثيرًا ما نسمع بعض الأشخاص يقولون في مواقف متعددة، أو أن لديهم شعار في الحياة وهو "أنا صريح"، في محاولة لتبرير، حديثهم، أو أسلوبهم المباشر، أو كلماتهم القاسية، ورغم أنَّ الصراحة قيمة إنسانية نبيلة، فإن استخدامها المفرط أو في غير موضعه قد يتحول إلى سلاح مؤذٍ يُفقد العلاقات دفئها واحترامها. فهل الصراحة دائمًا فضيلة؟
الصراحة تعني الوضوح، والشفافية في القول والابتعاد قدر الإمكان عن النفاق أو التلاعب بالكلمات والعبارات، وهي من الصفات الجميلة والحميدة التي تُكسب الإنسان ثقة الآخرين واحترامهم، فالشخص الصريح يقول الحقيقة كما هي دون تزوير أو مجاملة، ويسعى إلى إيصال فكرته بوضوح وصدق، وفي المجتمعات التي تُقدّر النزاهة والشفافية، تُعدّ الصراحة من القيم الأساسية، والنبيلة في التعامل الإنساني، لأنها تُبنى على الصدق وتحمي من سوء الفهم وسوء الظن.
بعض الأشخاص يستخدم عبارة "أنا صريح" لأسباب متعددة، فبعضهم يستخدمها كذريعة لتبرير موقف مُعين، أو قسوة كلامه بعد أن يوجّه كلمات جارحة أو مهينة للطرف الآخر، وكأنَّ الصراحة تبرر التجريح، بينما يلجأ آخرون إليها لإثبات الذات، معتقدين أنَّ الجرأة في القول دليل على قوة الشخصية. وهناك من يستعملها للتهرب من المسؤولية، فيُخفي وراءها رغبته في قول ما يشاء دون أن يتحمل تبعات كلماته، في حين ينشأ لدى البعض سوء فهم لمعنى الصراحة نفسها، إذ يخلطون بينها وبين التصرف غير اللبق أو النقد السلبي الذي يفتقر إلى الذوق.
تكون الصراحة مقبولة ومحبوبة عندما تُقال بأسلوب راقٍ ولطيف، فالكلمة الجميلة والطيبة قادرة على إيصال الحقيقة دون أن تُحدث جرحًا أو أذى، وتصبح أكثر جمالًا إذا أتت في الوقت المناسب، إذ إن لكل موقف طريقته الخاصة في التعبير، وليس كل وقت صالحًا لقول كل شيء. وتزداد الصراحة قيمةً عندما يكون هدفها الحقيقي هو الإصلاح، وليس الإهانة، فالشخص الصريح يسعى إلى الخير والبناء لا إلى إثبات التفوق على الآخرين، ومن الجميل أن تُقدَّم الصراحة بأسلوبٍ واعي وبنّاء، تُصاغ فيه النصيحة بكلمات وعبارات إيجابية تُعين الطرف الآخر على تقبّلها بروحٍ منفتحة.
الشعرة الفاصلة بين الصراحة والتصرف غير اللبق رفيعة ودقيقة جدًا، إذ تتحول الصراحة أحيانًا إلى تصرف غير لبق عندما تُستَخدم وسيلةً لإحراج الآخرين أو التقليل من شأنهم، أو عندما تُقال بأسلوب أو لهجةٍ متعالية أو ساخرة. كما تفقد الصراحة معناها النبيل عندما تُعبّر عن رأيٍ شخصي جارح لا ضرورة له، أو حين تُقال بلا احترامٍ لمشاعر الآخرين، وفي مثل هذه الحالات، لا تكون الصراحة شجاعة ولا صدقًا، بل تصبح نوعًا من العدوان اللفظي المموَّه بادعاء الشفافية.
إنَّ استخدام الصراحة بأسلوبٍ فظّ أو جارح قد يترك آثارًا سلبية على العلاقات الإنسانية، إذ يؤدي إلى توتر أو ضعف العلاقات سواء كانت الشخصية أو العائلية، ويُخلخل الثقة والاحترام المتبادل بين الأطراف. كما يجعل الآخرين يشعرون بالاستصغار أو الإهانة في الكثير من المواقف، فينفر النَّاس من الشخص الذي يصف نفسه بـأنَّه صريح، ويتجنبونه في الكثير من المواقف والمعاملات، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ الصراحة الحكيمة التي تُمارَس بلطفٍ ولباقة تُسهم في بناء جسورٍ من المودة والاحترام، وتُعزّز روح التفاهم والتقدير المتبادل بين الأفراد.
في الثقافة العربية والإسلامية تُعدّ الصراحة والصدق من القيم الأصيلة والثمينة التي يعتز بها الإنسان، غير أنَّ هذه الصراحة ينبغي أن تكون مهذبة ومراعية للمشاعر، بعيدة عن التجريح أو الإهانة. فهذه الثقافة تضع ميزانًا دقيقًا بين الصراحة الواجبة والكلمة الجارحة، إذ ليس كل حقيقة تستحق أن تُقال، ولا كل رأي ينبغي أن يُعبَّر عنه دون ضوابط. فالكلمة إذا خرجت بغير حكمةٍ قد تفسد أكثر مما تصلح، أما الصراحة التي تُقال بروحٍ طيبة ونيّة صادقة فإنِّها تُعزّز الثقة وتُقرّب القلوب.
القول "أنا صريح" لا يجعل من صاحبه بالضرورة شخصًا صادقًا أو شجاعًا، فالقيمة لا تكمن في القول، بل في النية والأسلوب، والصراحة الحقيقية هي التي تُعبّر عن الحقيقة بلُطف، وتنطلق من نية الإصلاح لا الإيذاء.