خالد بن سالم الغساني
منذ وُجد الاستعمار، تشكّلت عقيدته التي تقوم على مركزية الرجل الأبيض وتفوّقه، وعلى حقه المزعوم في الهيمنة على الشعوب “الأدنى مرتبةً” في سلّم الحضارة.
هكذا جعلوا منبع الحضارة من دولهم التي ماكانت يوماً سوى سارقة وناهبة لإمكانيات وحضارات الشعوب التي جعلوها اقل شأناً ومنزلة.
وكانت تلك العقيدة المظلة الفكرية التي برّرت الغزو، وسرقة الثروات، وطمس الثقافات، وتدمير الهويات الوطنية، تحت شعارات مضللة كـ“تمدين الشعوب” و“نشر التقدم”. لكن الاستعمار، وإن تبدلت أدواته، لم يمت؛ بل غيّر لغته ووسائله، فصار يُمارَس اليوم بوسائل سياسية واقتصادية وإعلامية، وبلسانٍ لا يقل عن سيوف الأمس حِدّة. وما تصريحات دونالد ترامب سوى النموذج الأوضح لاستمرار تلك العقيدة الاستعلائية في عصرنا الراهن، بثوبها الأمريكي الجديد.
حين قال ترامب عن منافسه جو بايدن: “لقد أصبح مثل فلسطيني، لكنهم لا يحبونه لأنه فلسطيني سيّئ جداً”، لم يكن يعبر عن موقف انتخابي عابر، بل كان يعيد إنتاج فكرة التفوق العرقي التي كانت أساس المشروع الاستعماري. ففي نظره، الفلسطيني ليس هوية وطنية أو قضية سياسية، بل رمزٌ للضعف والرفض والاحتقار. أن يُشبَّه بايدن بالفلسطيني يعني، في منطق ترامب، أنه فقد صفات “القوة والسيطرة”، وهي ذات النظرة التي جعلت المستعمر قديماً يستهزئ بالمقهور، فيسلبه كرامته قبل أن يسلبه أرضه.
ولم يتوقف الأمر عند التحقير الرمزي، بل تجاوزه إلى التخطيط العملي للإبادة والاقتلاع. ففي حديثه عن إعادة إعمار غزة بعد الحرب، قال ترامب: “أريد أن تأخذ مصر الناس، وأريد أن يأخذ الأردن الناس… سنقوم بتنظيف ذلك الشيء بالكامل.” هذه العبارة تحمل كل معاني الاستعمار الكلاسيكي: الطرد، التهجير، وإعادة توزيع السكان كما تُعاد ترتيب القطع في رقعة الشطرنج. يرى الفلسطينيين مجرد “ناس” بلا أرض، بلا ذاكرة، بلا حق، ويقترح تهجيرهم إلى الدول المجاورة لتبقى الأرض خالية “نظيفة”، تماماً كما وصف المستعمرون الأوائل قاراتٍ بأكملها بأنها “أرض فارغة تنتظر الحضارة”.
ثم بأتي تصريحه الثالث في ذروة الصفاقة، حين قال في مؤتمر صحفي مع نتنياهو: “سنقوم بالاستيلاء على غزة وامتلاكها… سننقل الفلسطينيين إلى دول أخرى ذات قلوب إنسانية، وسنحوّلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط… أتمنى أن نفعل شيئاً حتى لا يريدون العودة.” هذه الكلمات لا تحتاج إلى تفسيرٍ سياسي؛ إنها تعبير صريح عن جوهر العقيدة الاستعمارية: الأرض للمستعمر، والإنسان الأصلي يُمحى من الوجود. في هذه الرؤية، يُختزل الفلسطيني في مشكلة يجب التخلص منها، وتُحوَّل غزة — بعد اقتلاع أهلها — إلى مشروعٍ سياحي فاخر، كما لو أن الدماء والركام يمكن تغطيتهما برمال المنتجعات.
وحتى في حديثه عن دعم إسرائيل بالسلاح، قال ترامب مفتخراً: “ [نتنياهو] اتصل بي وقال نحتاج أسلحة… أسلحة لم أسمع بها من قبل… لكنكم استخدمتموها جيداً جداً.” هنا يتجلى الاستعمار في صورته العسكرية الحديثة، حيث يتباهى زعيم دولة عظمى بتزويد آلة قتل تُبيد المدنيين في غزة، ويمدح “حُسن استخدامها”، أي فاعليتها في التدمير والقتل. هذه ليست مجرد شراكة سياسية، بل تواطؤ كامل في مشروع الإبادة، واستمرار للمنطق الاستعماري الذي يرى في حياة الآخر ثمناً طبيعياً لبقاء “الحضارة”.
ما يميز خطاب ترامب ليس فقط عنصريته الفجة، بل صراحته الوقحة في التعبير عن ما كان يُقال همساً في أروقة السياسة الغربية. إنه الوجه العاري لعقيدة استعمارية لم تتغير، لكنها لم تعد تحتاج إلى الأقنعة. فبدلاً من الحديث عن “السلام” و“حقوق الإنسان”، يتحدث عن “الاستيلاء” و“الملكية” و“النقل القسري”، دون خجل أو مواربة. هذه الجرأة تكشف حجم التحول الأخلاقي في الغرب، حيث لم تعد الإبادة تُدان، بل تُقدَّم كخيارٍ عقلاني، بل وكإنجازٍ سياسي.
الاستعمار اليوم لا يرفع أعلامه القديمة، لكنه يستمر بأدواتٍ جديدة: بالقصف بدل الغزو، وبالعقوبات بدل الاحتلال، وبالإعلام بدل التنصير. أما فلسطين فهي الميدان الأكثر وضوحاً لانكشاف هذا الفكر، إذ يجتمع فيه الاستعمار القديم والجديد، السياسي والديني، العسكري والاقتصادي. تصريحات ترامب ليست إلا المرآة التي تعكس جوهر تلك العقيدة — عقيدة ترى في الأرض غنيمة وفي الإنسان الأصلي عقبة.
لكن ما يجهله أصحاب هذا المنطق أن التاريخ، مهما طال انحرافه، لا يُمحى؛ فالفلسطيني الذي يريدون “نقله” سيبقى شاهداً على أن الأرض لا تُنظَّف من أهلها، بل من الغزاة الذين يعتقدون أنهم يملكون الحق المطلق في تقرير مصير الآخرين. وبينما يحاول ترامب وأمثاله إعادة رسم خريطة الاستعمار بلغة “المشاريع الاقتصادية” و“إعادة الإعمار”، تبقى الحقيقة ناصعة: ما يحدث ليس تطويراً للأرض، بل استمراراً لنهبها، وليس بناءً للمستقبل، بل محاولة لدفن الذاكرة.
وهكذا، فإن ترامب، بوقاحته الخطابية وصراحته الفجة، لا يمثل خروجا عن منطق السياسة الغربية، بل تجسيدًا صادقًا لامتداد الفكرة الاستعمارية التي ما زالت تحكم رؤية العالم للآخر المختلف. إنه الوجه الجديد للاستعمار القديم، يطلّ علينا اليوم بثقة المنتصر، ناسياً أن الشعوب التي تُسلب أوطانها لا تنسى، وأن الأرض التي تُغتصب لا تُسلَّم للأبد.
فهل فينا من لا يزال لم يستوعب التاريخ ؟!