فايزة الكلبانية
في كل عام، تنتظر الأوساط الإدارية والاقتصادية في سلطنة عُمان صدور "ملخّص المجتمع" من جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، لما يحمله من أرقام ورسائل تتجاوز لغة التقارير إلى نبض الواقع؛ واقع تُقاس فيه النزاهة بالفعل لا بالقول، وتُترجم فيه الشفافية إلى نتائج ملموسة تُضاف إلى رصيد الوطن من الثقة والمساءلة.
هذا العام، جاء الملخص حافلًا بالإنجازات الرقابية التي تؤكد أنَّ حماية المال العام ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة يومية تُدار باحتراف ومسؤولية، وأن الجهاز ماضٍ في أداء رسالته الوطنية بثبات واتزان، واضعًا نصب عينيه صون مقدرات الدولة وترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة.
فقد كشف "ملخّص المجتمع" عن تمكن الجهاز من تحصيل واسترداد مبالغ مالية لصالح الخزانة العامة بلغت نحو 58 مليون ريال عُماني، منها 25 مليون ريال عن عام 2024 وحده، فيما تم تحصيل 33 مليون ريال خلال عام 2023، ويُعد هذا الإنجاز المالي انعكاسًا مباشرًا لأثر الرقابة الفاعلة، التي لا تكتفي بتشخيص الخلل، بل تمتد إلى معالجته واسترجاع حقوق الدولة كاملة.
كما تعامل الجهاز خلال العام مع 25 قضية من قضايا الأموال العامة، أُحيلت إلى الجهات القضائية المختصة بعد ثبوت وجود مخالفات تمس المال العام، شملت قضايا استغلال المنصب والتزوير والرشوة والاختلاس والإخلال بواجبات الوظيفة، وهي قضايا تؤكد أن الجهاز لا يتهاون أمام أي تجاوز، مهما كان موقعه أو حجمه، وأن سيادة القانون فوق الجميع.
وفي سياق أعماله الرقابية، نفّذ الجهاز 225 مهمة فحص شملت وحدات حكومية وهيئات وشركات، نتج عنها 172 تقريرًا تفصيليًا، ركزت على مجالات الالتزام الإداري والمالي، وتقويم أداء الخدمات العامة، إضافة إلى مراجعة العقود والاتفاقيات والمشروعات الكبرى. كما أنجز دراسة 63 مشروع قانون أو لائحة تتعلق بالشؤون المالية والضريبية، في إطار تعزيز دوره التشريعي المساند لرفع كفاءة الأنظمة المالية والإدارية في الدولة.
أما على صعيد التفاعل المجتمعي، فقد تلقى الجهاز 1378 شكوى وبلاغًا خلال عام 2024، أنجز منها ما نسبته 90%، ما يعكس ارتفاع وعي المجتمع بأهمية الرقابة والإبلاغ، ويجسّد الشراكة بين المواطن ومؤسسات الدولة في حماية المال العام. إن هذه النسبة لا تُعبّر فقط عن حجم العمل، بل عن مستوى الثقة الذي بات المواطن يمنحه للجهاز، بوصفه جهة نزيهة تتعامل مع البلاغات بجدية وشفافية.
ويحمل استرداد 58 مليون ريال للخزانة العامة دلالات عميقة تتجاوز القيمة المالية، فهو مؤشر على قوة النظام الرقابي وقدرته على تصحيح المسار متى ما انحرف، وعلى أن الأجهزة الرقابية في السلطنة أصبحت لاعبًا رئيسيًا في تعزيز كفاءة الإنفاق وضمان العدالة في إدارة الموارد. فكل ريال يُسترد هو استعادة لحق عام، وكل قضية تُحال إلى القضاء هي انتصار للنزاهة على الفساد.
ويتكامل هذا النهج مع مستهدفات "رؤية عُمان 2040" التي تؤكد على بناء مؤسسات حوكمة فعّالة، وتعزيز مبدأ المساءلة والشفافية في الأداء الحكومي. وقد أعد الجهاز خطته السنوية وفق هذه الرؤية، وبما يتسق مع المعايير الدولية المعتمدة من المنظمة العالمية للأجهزة العليا للرقابة المالية (INTOSAI)، ما يجعل الأداء الرقابي في السلطنة مواكبًا لأفضل الممارسات العالمية في الإدارة والمساءلة.
وفي جوهره، لا يُعد "ملخّص المجتمع" مجرد تقرير سنوي، بل وثيقة وطنية تُعبّر عن ثقافة دولة تؤمن أن الرقابة مسؤولية جماعية، وأن الشفافية ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لضمان العدالة والاستدامة. إن الأرقام التي أعلنها جهاز الرقابة ليست إنجازًا إداريًا فحسب، بل رسالة اطمئنان للمجتمع بأن يد الدولة يقظة، وأن النظام الرقابي في عُمان يسير بثقة نحو بناء إدارة عامة نظيفة وفعّالة، تحفظ المال العام وتُعزّز ثقة المواطنين في مؤسساتهم، في ظل قيادة رشيدة وضعت النزاهة ركيزة للتنمية، وجعلت من المحاسبة عنوانًا للثقة والاستقرار.