سالم بن حمد الحجري **
تتكرر في الخطاب السياسي العالمي مشاهد يُستغل فيها ما يُدعى "الإنجازات الدبلوماسية"- حقيقية كانت أم مجرد ادعاءات- كرأس مال سياسي لتلميع الصورة الدولية وترسيخ الإرث، وفي هذا السياق، يبرز ادعاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال فترته الرئاسية الثانية التي انطلقت في يناير 2025، بأنَّه «أنهى ثمان حروب غير قابلة للإنهاء» خلال بضعة أشهر، واستغل ترامب هذا الادعاء على منابر عالمية رفيعة، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة واجتماعاته، وربطه صراحةً بحملة الترويج لترشيحه لجائزة نوبل للسلام في أكتوبر 2025، التي انتهت بعدم فوزه بها.
لكن عند تدقيق هذا الادعاء عبر عدسة التحقق من الحقائق، مستندين إلى مصادر مثل بوليتيفاكت politifact.com، ومنصة تحري المعلومات factcheck.org، وشبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية، وموقع "أكسيوس" الإخباري الأمريكي المقرب من دوائر المخابرات، وإلى جانب النقاش والطرح من كبار مُحلِّلي السياسة والعلاقات الدولية على منصة "إكس" واللقاءات التلفزيونية، يتضح أن الادعاء مُضلِّل ومبالَغ فيه إلى حدٍ كبير، وربما غير دقيق تمامًا في حالات بعض الحروب التي وردت في الادعاء؛ ما يبرز الواقع هو أن إدارة ترامب شاركت في وساطات أدت إلى تهدئة مُؤقتة في عدة نزاعات، غير أن وصف ذلك بـ"إنهاء حروب" يتغاضى عن التعقيدات الجوهرية والتاريخية لتلك الصراعات وهشاشة كثير من الاتفاقيات.
انطلقت حملة ترامب الإعلامية في أغسطس 2025، حين أعلن أنَّ 6 حروب ستنتهي، وفي سبتمبر أضاف صراعًا سابعًا إلى القائمة، ثم ارتفع العدد إلى ثمانية عقب إعلان وقف إطلاق النَّار في غزة بأكتوبر من العام ذاته. لذلك يصف ترامب نفسه بـ«صانع السلام»، مستنِدًا إلى ما يُسمّيه «الدبلوماسية القوية» وهو تعبير عن مزيج غير مألوف يجمع بين الوساطة التقليدية والضغط التجاري مثل فرض تعريفات جمركية، والعقوبات، وأحيانًا اللجوء إلى الضربات العسكرية الفورية. من الملفت للمتابع لهذا الخطاب هو انتقاد إدارة سلفه جو بايدن، وتصوير فترته كأنَّها عودة للفاعلية الأمريكية على الساحة العالمية.
ودحضًا لهذا الادعاء، أستعرضُ بصورة متعمقة قائمة "الحروب الثمانية" التي ما ينفك ترامب عن ذكرها في كل محفل سياسي أو لقاء إعلامي، ولنبدأ بادعائه وقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهي حرب الإبادة التي استمرت عامين، ولكن بعد وساطة أمريكية جادة أسفرت عن هدنة وتبادل الأسرى في أكتوبر الجاري. ويُقيِّم المتابعون هذه الهدنة بأنَّها جزئية لكنها خففت الكثير من مآسي القتل والتشريد والتجويع التي مارسها الاحتلال، ولا يعتبر ذلك وقفاً للحرب؛ إذ إن تجدد القتال ممكن في ظل تعنُّت الكيان في تنفيذ بنود الخطة، فضلًا عن أن جذور المشكلة تتعمق كثيرًا وأصل النزاع حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على أرضه والتي يقف الاحتلال عائقًا في وجها.
ثانيًا الادعاء بوقف الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران في يونيو الماضي، وشاركت فيها الولايات المتحدة بهجمات على مواقع نووية إيرانية، وبصورة غريبة، تلتها مساعي وساطة أمريكية لوقف إطلاق النار، وقد انتهى القتال المباشر، لكن السبب الجذري وهو العداء بين القوتين فضلا عن نشاط التسلح ما زال قائمًا، والتهديدات مستمرة من الطرفين، والمحادثات توقفت. الوضع يبدو كهدنة هشة، لا كإنهاء نهائي للحرب ولا يزال قادة الكيان يهددون بين الفينة والأخرى بشن حرب أخرى
ثالثًا الادعاء بوقف الحرب بين الهند وباكستان والتي اندلعت في المناطق الحدودية بين البلدين في مايو من العام الجاري، ويزعم ترامب أن واشنطن لعبت دور الوسيط لإيقاف الحرب بين الدولتين النوويتين الذي كانت ستكون مدمرًا للبشرية كما وصفها، وهذا ادعاء مُضلِّل؛ حيث شَكَرَت باكستان ترامب على ما يُفترض أنه تدخُّل أمريكي، لكن الهند رفضت بشكل قاطع هذا الدور، موضحةً أن الهدنة نتجت عن اتصال مباشر بين القادة العسكريين، وقد استمرت الاشتباكات بضعة أيام فقط، وما زالت التوترات قائمة؛ حيث إن أصل النزاع تاريخي ومتجذِّر وغير قابل للحل بمثل هكذا مسرحيات دبلوماسية.
رابعًا الادعاء بوقف الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في إقليم (ناغورنو- كاراباخ)، واقعيًا تلك كانت جولة للحرب بين الدولتين نشبت في سبتمبر2023 في مسلسل من الحروب دام مائة عام، ومع مجيء ترامب للسلطة أعاد القضية للسطح من خلال استضافة البيت الأبيض لتوقيع إعلان سلام في أغسطس الماضي في خطوة دبلوماسية إيجابية، لكن الاتفاق لم يُوثَّق بعد، وتضع أذربيجان شروطًا جديدة، ولا يزال التنفيذ على الأرض مُعلقًا والنزاع ما زال قائمًا.
الحرب الخامسة التي أعلن ترامب أنه أوقفها لا تعدو سوى اشتباكات حدودية بين تايلاند وكمبوديا دامَت خمسة أيام في يوليو الماضي، وهو نزاع تاريخي آخر وجرت وساطة بين الطرفين أدت إلى هدنة مؤقتة، ولا يزال النزاع الحدودي الأساسي موجود، وتستمر الانتهاكات المتفرقة. وصف ترامب لنزاع حدودي قصير بـ«الحرب» ثم إعلان «انتهائه» يُظهر مبالغة واضحة.
أما أغرب حرب أعلن عنها ترامب فتلك التي زعم أنها كانت بين مصر وإثيوبيا بسبب سد النهضة، وهذا ادعاء كاذب؛ حيث لم تُشن حرب على الإطلاق، وما بين البلدين هو صراع دبلوماسي وقانوني حول حصة المياه من نهر النيل، وكانت الجلسات التي عُقدت في فترة رئاسة ترامب الأولى لم تُفضِ إلى أي اتفاق، والسد أُنجز في سبتمبر 2025 دون إبرام اتفاق نهائي، لذا لا يزال النزاع السياسي والقانوني قائمًا.
كذلك الحال في الادعاء بدور ترامب في وقف الحرب بين صربيا وكوسوفو، وهو ادعاء كاذب؛ حيث لم يُسجل أي نزاع مسلح نشط في عام 2025. ترامب صرّح بأنه نجح في كبح حرب محتملة عبر ضغوط تجارية، لكن هذا الزعم يبقى مجرد افتراض غير مدعوم بأدلة ملموسة، وتظل الخلافات السيادية قائمة منذ عقود وهذا تضخيم لأزمات افتراضية، كما إن تصنيف نزاعات حدودية قصيرة أو خلافات دبلوماسية بـ"حروب" ليس دقيقًا من الناحية العلمية ولا السياسية؛ بل يبالغ في رفع قيمة ما تم إنجازه.
أما توقيع اتفاق السلام بين رواندا والكونجو التي رعته الولايات المتحدة وقطر في يونيو الماضي، والذي بدأت جهوده في الدوحة منذ شهر مارس 2025، يبقى هذا الاتفاق المبرم بين البلدين هشًا وقابل للانفجار مجددًا؛ حيث يعتمد كليًا على احترام بنود الاتفاق الذي لا يمكن ضمانه مع المجموعات المتمردة في البلدين، إلّا أن اللقطة الإعلامية قد نالها الرئيس المهووس بالمديح.
تلك الادعاءات التي يتغنّى بها الرئيس الأمريكي ترامب، اصطدمت بواقع أساسي ظهر فيه إغفال الاستمرارية، بينما ركزت الصورة على لحظة توقيع الاتفاق واستهلاكها إعلاميًا، فضلًا عن إنكار بعض الأطراف الأساسية في النزاع دور الوساطة الأمريكية، ورغم أنه لا يمكن إغفال الدبلوماسية الأمريكية في عهد ترامب ومساهمتها في تهدئة مؤقتة لبعض بؤر التوتر، لا سيما عبر اللجوء إلى الضغوط الاقتصادية والعسكرية، إلّا أن القول إنها "أنهت ثمان حروب" يظل ادعاءً مُضلِّلًا لا يصمد عند التحقيق الدقيق والموضوعي المبني على الواقع.
إنَّ ما يُعزِّز هذه القناعة أن أغلب هذه النزاعات ما تزال تنبض بالحياة، وإن خفت نيرانها أحيانًا، ويبرز الفارق بين الخطاب السياسي المختصر وتعقيدات الواقع أن السلام الحقيقي والدائم لا يُبنى على بيانات صحفية أو توقيع اتفاقيات هشة؛ بل على مسارات سياسية شاقة ومستدامة تستهدف الجذور لا الأعراض فحسب، وعندها فقط يكون لجائزة نوبل للسلام أسبابها المُقنعة لمن ينالها.
** محلل سياسي