سلطان بن خلفان اليحيائي
الشكرُ والجحود في جوف الإنسان منذ أن نُفخ في الطين روحُ الحياة، تجلّى أوّلُ نكرانٍ للجميل حين أبى إبليسُ السجودَ لآدم استكبارًا، وتعهد أن يُغوي هذا المخلوق الذي فُضِّل عليه، فغدا النكران والجحود سلالةً تسري بين البشر إلى قيام الساعة.
فكيف لمن خُلِق من نار أن يعصي ربّه الذي سوّاه؟ وكيف يتكبّر على أمرٍ من خالق الكبرياء نفسه؟ ومن تلك اللحظة بدأ داءُ الجحود يتسلّل في الوجود، يلوّث القلوب ويختبر صدق الشكر في الإنسان.
ولم يكن بنو إسرائيل استثناءً من هذا الداء؛ فقد رأوا البحر ينفلق، والعصا تتحوّل حيّةً بأمر الله، ثم ما لبثوا أن قالوا لموسى عليه السلام: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ (الأعراف: 138).
جحدوا الآيات وعبدوا العجل بعد أن أنجاهم الله من فرعون وجنوده. أيُّ قلبٍ يرى المعجزة ثم ينقلب على وجهه؟ وأيُّ عَمى أعظم من أن يُكافأ الإحسان بالكفران؟
تلك سيرة أُمّةٍ عاينت البراهين كلها، ثم قابلت جميل ربها بنكرانٍ لا يُغتَفر.
وحين كانت الدولة العثمانية تُقيم راية الإسلام وتحفظ الحرمين، تفرّق العرب عنها. واستُدرجت بعض قياداتهم بوعودٍ كاذبةٍ من بريطانيا العظمى آنذاك، فأسقطوا الخلافة وطمسوا تاريخًا مشرّفًا “بجرّة قلم”!
ذاك وجهٌ من وجوه نكران الجميل، يوم خانت السياسة الأمانة، وغاب الوفاء لمن صان الدين والأرض قرونًا. وهكذا لم تسلم المواقف المشرّفة من الجحود، وكذا شهدنا ذلك اليوم في مواقف محور المقاومة، وعلى رأسه حركة حماس، التي تؤدب كيانًا صهيونيًا مغتصبًا لأرض عربية، فتُقابَل جهوده بالخذلان والنكران، بل بالتطبيع مع ذات الكيان، رغم دعم شرفاء الأمة.
لم تسلَم عُمان النزيهة من مشهد الجحود؛ البلد الثابت على الحق، الذي لم يدّعِ بطولةً، ولم يتاجر بالفضائل، يفتح قنوات الحوار بصدقٍ واحترافية، ويقرب وجهات النظر، ومع ذلك يُقابَل أحيانًا بالتجاهل أو التشكيك، أو بالسعي لتعطيل مصالحه من بعض من نالوا خيره.
ولا يخفى على العقلاء أنّ ذلك التجاهل لم يأتِ إلا نتيجة اجتناب رجس التطبيع الذي لوّث العقول وطمس البصائر. فعُمان لم تكن يومًا إلا على العهد، ولم تتخل عن فلسطين حين تخلّى عنها المُطبِّعون.
في الأسرة تختبر النفوس حقًا. الأم التي سهرت وربّت وبذلت، فإذا شاخت صارت في نظر أبنائها عبئًا يُلقى على دار أو خادمة. الزوجة التي وفّت بكل ما وجب عليها، فحصل عليها الهجر أو الفراق. وزوجٌ لم يوف بالكماليات، فتحوّل الوفاء في عين زوجته رمادًا تذروه الرياح.
وللأسف، لا يسكن نكران الجميل البيوت وحدها، بل يطوف بين الأخوة والأقارب والأصحاب كريحٍ عاتية لا تبقي ودًا ولا تذر. فالأخوة والأقارب والأصحاب ليسوا بمأمنٍ؛ فكم من إنسان أنفق على من يحبّهم، فإذا بلغوا مكانة أو وظيفة، أعرضوا عنه وكأنّ المعروف صار عارًا يُتوارى منه! وتستمر الطعنة من أقرب قلبٍ كان يُظن أنه وطن.
وتمتد الطعنة خارج البيوت؛ في المشاريع والأعمال، حيث يبدأ الشخص مشروعه ويختار من يثق بهم، فإذا أثمر الجهد، تبدّل الإخلاص طمعًا، وارتفع صوت النزاع بادعاءات بأحقية أكبر ونسب أعلى، ليطفو الجحود والنكران على سطح الصدق وتموت النوايا الطيبة بين الأصدقاء.
يقول المتنبي:
إذا أنتَ أكرمتَ الكريمَ ملكتَهُ // وإنْ أنتَ أكرمتَ اللئيمَ تمرَّدَ
ويقول المولى عز وجل: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13).
إنّ الشاكرين قلّة، والجاحدين أكثر من الرمل عددًا. وفي سيرة النبي ﷺ شاهدٌ جليل: "مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله"؛ فالشكر ميزان الإيمان، ونكران الجميل انحدار عن فطرة أرادها الله طاهرة.
والجميل لا يضيع وإن جحده الناس. العجب ليس في من جحد؛ بل في من يستمر بالإحسان رغم الجحود والنكران. هؤلاء يسقون الزهر وإن لم يشتمّوا عبيره، ويغفرون الخذلان كما يُغفر خطأ الطفل. هم بقايا النقاء في زمن تُوزن فيه القلوب بالمصلحة لا بالمحبّة.
ازرعِ المعروف ولو في غيرِ أهلهِ
ما ضاعَ معروفًا أينما زُرِعَ
وأول خطوة لدرء داء الجحود والنكران هي إدراك جذوره؛ فهذا الداء قديم قدم الخلق نفسه. منذ إبليس الذي أبى السجود، ومرورًا بالأجيال التي استُغويت، ظل الجحود والنكران يلوّث القلوب.
ويظهر في حياتنا اليومية، في البيوت، بين الأقارب، أو بين الأصدقاء؛ الأم التي تبذل حياتها دون تقدير، الزوجة التي تُهمل، الأصدقاء الذين ينسون المعروف حين يحققون مصالحهم. وللتقليل من أثره، يجب غرس الشكر والاعتراف بالجميل منذ الصغر، ليصبح خلقًا عامًا، وتعود النوايا الطيبة عادةً.
آخرُ القول.. من جحد جميل الناس فقد جحد جميل الله عليه، ومن أنكر المعروف فقد أنكر نفسه قبل أن ينكر غيره. وما أبشع أن يعض المعروف يد صاحبه، لكن الأجمل أن تظل اليد ممتدة، تُعطي وتغفر وتوقن أنّ الله لا يُضيع الإحسان مهما تنكّر له الناس.
والإحسان لا يُهزَم وإن خذله الناس، والجميل يورِق في أرض الله ولو بعد حين. وسيظل الشاكرون نورًا في دربٍ طغى عليه ظلامُ الجحود والنكران، يُذكّرون الأجيال بأن الخير لا يموت.
