ابدأ بنفسك يشرق الوطن

 

 

خالد بن حمد الرواحي

نطالبُ بوطنٍ مثالي، بينما نهمل التفاصيل التي تصنع صورته كل يوم. فالأوطان لا تُقاس بما تمتلكه من موارد، بل بما يزرعه أبناؤها من ضميرٍ في تفاصيل يومهم؛ ففي السلوك الصغير تُبنى هيبة الشعوب، ومن لحظةِ إخلاصٍ عابرةٍ يولد أثرٌ لا يُمحى. غير أن هذا الضمير لا يُقاس بالكلمات أو بالشعارات؛ بل يُختبر في المواقف البسيطة التي تكشف صدق الانتماء.

ففي طابورٍ بإحدى الدوائر الحكومية، يقف موظفٌ متأخر بعذرٍ مُتكرر، ومراجعٌ مستعجل بعذرٍ مختلف، وكلاهما يطالب بالإصلاح، لكن أحدًا لا يُصلح ما بيده. وهكذا يظل السؤال معلّقًا: ماذا قدّم كلٌّ منا لهذا الوطن اليوم؟

ومن هنا تبدأ المفارقة بين ما نقوله وما نمارسه؛ ففي صباحٍ كهذا تتجلى الفجوة بين الحب الذي نُعلنه للوطن والسلوك الذي نعيشه معه. ننتقد التأخير ونحن نؤخّر، ونطالب بالنظام ونحن أوّل من يكسره. وفي كل مرة نكرّر الشكوى، نغفل أن التغيير الحقيقي يبدأ من تصرّفٍ صغير نملكه نحن لا غيرنا.

ولعلنا نجد في حياتنا أمثلة كثيرة تُجسّد هذه المفارقة. حدثني أحد المستشارين في العلاقات الزوجية قائلًا: "جاءتني زوجة تشكو من زوجها، وقالت لي: زوجي لا شيء يرضيه؛ ينتقد كل شيء من حوله، ويظن أنَّه قادر على إصلاح العالم بأسره… لكنه في بيته لم يتمكن من تغيير المصباح الذي انطفأ منذ ثلاثة أشهر!"

هذه القصة الصغيرة تلخّص مأزقًا كبيرًا؛ فبعضنا يطمح لتغيير العالم، لكنه يعجز عن تغيير ما حوله. فالتغيير الحقيقي لا يبدأ من القمم، بل من أقرب زاوية في حياتنا… من مصباحٍ صغيرٍ نضيئه فنرى الطريق.

فالوطن ليس شوارع ولا مباني ولا شعارات تُرفع في المناسبات، بل هو سلوكٌ يومي يختبر صدق ضمائرنا في العمل والالتزام. ومن هنا تتجسّد المسؤولية في التفاصيل البسيطة: احترام المواعيد، المحافظة على النظام، والعناية بالمكان العام كما لو كان بيتنا. فحين نتقن هذه التفاصيل يصفو وجه الوطن في مرآتنا جميعًا.

والوطن، في جوهره، ليس مساحة نعيش فوقها، بل منظومة قيم نحملها في داخلنا. فحين يغيب الضمير يضيع الاتجاه، وحين تحيا المسؤولية تستقيم البوصلة. الحب الحقيقي للوطن لا يُقاس بما نقوله؛ بل بما نفعله في صمتٍ وإخلاص. ومن هذا الوعي تبدأ النهضة؛ فالإصلاح لا يولد من قراراتٍ تُذاع ولا شعاراتٍ تُردَّد، بل من ضميرٍ يختار الصواب حتى حين لا يراه أحد. وعندما يتحول هذا الضمير إلى سلوكٍ يومي، تصبح القوانين أصدق تطبيقًا، والمؤسسات أكثر انضباطًا، والمجتمع أكثر انسجامًا مع ذاته.

ولأن رؤية "عُمان 2040" جعلت الإنسان محور التنمية، فقد أعادت إليه دوره الطبيعي في بناء الوطن، لا كشعارٍ يُتداول في المؤتمرات، بل كحقيقةٍ تُبنى عليها السياسات والمشاريع. هذه الرؤية حمّلته مسؤولية الحفاظ على المكتسبات، وجعلت من قيم العمل والإنتاجية مقياسًا للوطنية. فالمواطن المسؤول هو أساس كل مشروعٍ ناجح، والحارس الأوّل لقيم النزاهة والإتقان. وعندما يدرك كل فردٍ أن عمله الصغير جزءٌ من مسؤولية وطنٍ كبير، يتحول الجهد اليومي إلى رسالة، والوظيفة إلى وفاء، والمهنة إلى شرفٍ لا يُقاس بالأجر؛ بل بالأثر.

فالحكومة ليست كيانًا منفصلًا عن المجتمع، بل هي مجموعة من أبنائه الذين اختيروا لخدمته. فإذا أدّى كل فردٍ في موقعه دوره بإخلاص ومسؤولية، تحقق الهدف الوطني المنشود. أمّا حين يتصرّف أحدهم تصرّفًا شخصيًا- إيجابيًا كان أو سلبيًا- فإن أثره لا يُحسب عليه وحده، بل يمتد إلى صورة المؤسسة التي يمثّلها، وربما إلى الحكومة بأكملها. فالموظف العام، مهما صغُرت مهامه، هو وجه الدولة أمام الناس، وبأدائه تتكوّن الثقة أو تتصدّع.

وفي مقدّمة هؤلاء يبرز الموظف في منفذ الخدمة؛ فهو الواجهة التي يرى الناس من خلالها مؤسسته. ابتسامته الصادقة، وكلمته الطيبة، وطريقته في التعامل مع المراجعين، كل ذلك يُسهم في بناء صورةٍ إيجابية عن الجهة التي يعمل بها، تمامًا كما أن الجفاء قد يترك انطباعًا سلبيًا يُحسب على المؤسسة بأكملها. فكل ابتسامةٍ في موقع الخدمة ليست مجاملة، بل استثمار في الثقة العامة بين المواطن والحكومة.

وفي حياتنا اليومية نرى النموذجين معًا: أحدهم يتحدث عن حب الوطن في كل مناسبة، يلوم الآخرين في كل تقصير، ويُحمّل المؤسسات كل خطأ، لكنه لا يحترم إشارة مرور، ولا يُنجز عمله في موعده، ولا يبذل جهدًا يتجاوز الحد الأدنى.

وفي المقابل، هناك من يعمل في صمت، لا يبحث عن كاميرا تُصوّره ولا عن إشادةٍ تُخلّد اسمه، لكنه يترك أثره في كل زاوية يمرّ بها. هو المعلم الذي يزرع القيم في طلابه، والعامل الذي يُتقن صنعته بإخلاص، والموظف الذي يُنجز مهامه وإن غاب الرقيب. هؤلاء يصنعون الوجه الحقيقي للوطن… بلا ضجيجٍ ولا شعارات؛ بل بضميرٍ حيّ وإحساسٍ صادق بالمسؤولية.

وربما يصدق فينا قولٌ جميل لأحد الحكماء: "حين كنت صغيرًا، ظننت أنني قادر على تغيير العالم، ففشلت وأُحبِطت. وعندما كبرت حاولت أن أغيّر وطني فخاب أملي، ثم سعيت إلى تغيير أسرتي فلم أنجح، حتى أدركت في شيخوختي أن التغيير الحقيقي يبدأ من نفسي... وهناك فقط نجحت، ولكن بعد أن تأخرت كثيرًا".

حكمة تختصر رحلة الوعي الإنساني التي نغفلها كثيرًا؛ فالقوة الحقيقية لا تكمن في التأثير على الآخرين؛ بل في القدرة على إصلاح الذات أولًا، لأن البدايات العظيمة تنطلق دائمًا من الداخل.

ليس أجمل من أن ترى الوطن يبتسم في عيون الناس، لأن أحدهم قرر أن يؤدي عمله بإخلاص، أو أن يزرع وردة بدل شكوى، أو أن يُطفئ غضبًا بكلمة طيبة. فالوطن لا يحتاج دائمًا إلى قراراتٍ ضخمة، بل إلى قلوبٍ تؤمن أن الإصلاح يبدأ من الداخل.

وفي النهاية.. يبقى الوطن مرآةً صادقة لا تجامل أحدًا؛ تعكس ما نضعه أمامها من أفعالٍ وسلوكيات. فإذا اتّسخ زجاجها فالخلل فينا لا فيها؛ فالوطن لا يُصلح نفسه بنفسه؛ بل بأيدي أبنائه الذين يرونه مسؤوليةً قبل أن يكون هوية، وواجبًا قبل أن يكون انتماءً.

ابدأ بنفسك، أصلح مرآتك، وستكتشف أن الوطن كان ينتظر ابتسامتك؛ ليُشرق من جديد.

الأكثر قراءة