لينا الموسوي
قبل أسابيع مضت، وبينما كنتُ جالسةً في مقعد الطائرة متجهةً إلى هولندا- المكان الذي قضيتُ فيه سنوات طويلة من عمري- سمعت ألحان أغنيةٍ كانت تتردد كلماتها على ألسنة الكثير من المغتربين العرب.
تلك الأغنية المصرية التي اشتهرت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن تتبدل ملامح الحياة. الأغنية تحكي قصة المطربة داليدا، وهي مغتربة فرنسية بقلبٍ وأصلٍ مصري، تُعبِّر عن اشتياقها وحنينها الجارف للوطن. وجدتُ نفسي أردد تلك الكلمات بحب وشوق، متفكرةً في معنى "الوطن" في وقتنا الراهن، وبدأتُ أتساءل: هل الوطن هو الأرض التي يولد عليها الإنسان؟ أم هو المكان الذي يختار العيش فيه ويشعر فيه بالانتماء؟ هل هو الوثيقة الرسمية التي يحملها في حقيبته؟ أم هو مجموعة الأفكار والشخصية التي يصقلها عبر تجاربه؟
في الحقيقة، وبعد التغيرات العالمية العاصفة خلال العشرين سنة الماضية- من حروب وهجرات وثورات تقنية- اختلطت المجتمعات ببعضها، وتنوعت المفاهيم بتنوع مصاعب الحياة.
نشأت أجيال شابة جديدة، غالبًا ما لا تنتمي لوطن جغرافي محدد، ولا تتقيد بهوية ضيقة أو عادات متأصلة. شبابٌ يحلم بالحرية، ويسعى لتحقيق ذاته بعيدًا عن القيود والأعراف الاجتماعية أو الدينية التقليدية، يحمل مفاهيم متأثرة بثقافات هجينة، متجاوزًا التاريخ والأصول الحضارية القديمة، ليرتقي علميًا عبر بوابة التكنولوجيا. لقد أصبح هؤلاء الشباب بمثابة "وحدات عالمية" تتحرك بحرية فوق رقعة الكرة الأرضية؛ حيث باتت أجهزتهم الإلكترونية هي أوطانهم الحقيقية، وفي المقابل، نجد الآباء يعانون نوعًا من "انفصام الشخصية"؛ صراعًا مريرًا بين التمسك بالماضي والتراث، وبين مواكبة الانفجار التقني وحروب الجهل الحديثة.
ومن خلال تجاربي الطويلة في دول مختلفة، واجهتُ صعوبات كثيرة في التأقلم بسبب انغلاق بعض المجتمعات آنذاك، رغم ما تمتلكه من إرث حضاري وعلمي.
أما اليوم، فقد أصبح العالم "قرية واحدة" تتبادل الثقافات لحظيًا، ورغم السلبيات الناتجة عن سوء استخدام التقنية، إلّا أن الشباب صار أكثر تفهمًا ومرونة في التعامل مع الجنسيات المختلفة، وأكثر سلاسة في إيجاد حلول لمشاكل الحياة. حيث يبقى الأساس التربوي هو الصخرة التي لا تتزعزع؛ فمهما تقدمت العلوم، يظل ما يزرعه الآباء من بذور الحب والمودة والاهتمام في أبنائهم هو النور الذي يضيء طريقهم.
إن "الوطن" في اعتقادي وعصارة تجربتي الخاصة؛ هو ذلك المجتمع الذي يشعر فيه الإنسان بالسكينة والطمأنينة والاستقرار؛ فالوطن ليس بالضرورة مسقط الرأس، بل هو المكان الذي ينتمي إليه كيانك، وتجد فيه راحتك ورزقك، وهذا ما جسده الخالق في محكم آياته : ﴿وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا﴾ (الحجرات: 13).
ما علينا سوى أن نتذكر دائمًا أن الحنين والحب والعاطفة التي تُغذّي أُسرنا وحياتنا هي الروح الحقيقية التي تشعرنا دائمًا بحنين أوطاننا.
