ماجد المرهون
لم أُشكِّك يومًا في دور مِصر مع كُل الأحداث التي تعصِف بمنطقة المشرق العربي ومنذ 870 عامًا ماضية؛ فهي الحصن المنيع الذي وقف ندًا لأطماع الغرب الأوربي لاحتلال بيت المقدس إبان الحروب الصليبية في المنصورة وفارسكور، ثم المغول في عين جالوت، والإنجليز وتصاعد تأثير أحمد عرابي الذي مهَّد لسحق حملة فريزر، وتبقى مصر الطود الشامخ الذي يقف اليوم أمامه الاحتلال الإسرائيلي قزمًا ضعيفًا، وإن تسلقه في محاولاتٍ يائسة واختراقاتٍ بائسة ليعود في كُل مُحاولةٍ منكفئًا على عقبيه ولا يجد لنفسهِ مناصًا من التراجع ثم العودةُ مجددًا للمحاولة وهكذا دواليك لأكثر من سبعة عقود.
نقرأ في التاريخ قِدم وعراقة الدولة المِصرية؛ بل هي التاريخ نفسهُ مُنذ النبي الثالث بعد آدم وشيث؛ حيث سكنها إدريس- عليهم جميعًا السلام- وقيل حَكَمها وجاء معه بدين التوحيد وأول من خطَّ بالقلم وعلَّم الناس الكتابة ومهارات العمل وأسَّس لنُظم الحياة، ومن حينها ومصر لا تعرف التبعيةَ لأحدٍ ولا الخضوع لغيرها، إلّا ما يشُوب بعض الأحداثِ من أحوال ضعفٍ مرحلية في الإدارة السياسية والحربية بين حينٍ وآخر، وهي شذراتٍ لا تعدو قدر المصالح المُرتبطةِ بأفراد طوتهم ذاكرة التاريخ القاتِمة في زوايا النسيان المُظلمة وأفرد لعظمائها منابر من وهجٍ وصفحاتٍ من نورٍ باقية إلى الأبد وخالدة.
إذن ما هو السر في مصر؟
يُستحسن وقبل الإجابة على ذلك السؤال الإشارة للعدو الإسرائيلي بعلمه الأكيد بعمق الثقافة المصرية الراسخة، وأن المصريين كانوا في يومٍ من الأيام أسيادًا لأجدادهم من بني إسرائيل لأكثر من 4 قرون قبل خروجهم مع نبي الله موسى عليه السلام، ولا تزال اللعنةُ المصرية تلاحقهم ليتوهوا 40 عامًا أخرى في سيناء المصرية التي مات فيها موسى وسبقه أخاه هارون بثلاثة أعوام. وهنا نجد أنَّ المسألة المصرية دائمًا ما تُحطِّم أحلام العدو الإسرائيلي، وعلى أعتاب أول حجر من أحجار قلعة الإسلام الشامخة، وهم يعلمون، ولذلك نجد أن العُقدة المصرية تُطاردهم أينما حلّوا في ارض المشرق وكيفما فعلوا، ولسان الحال الإسرائيلي بعد عام 1948 يقول: ماذا نحن فاعلون؟
سيُلاحظ المُستقرئ للأحداث ان الارتباط التاريخي بين بيت المقدس وعلاقته بأرض الكِنانة، أمران لا ينفكان عن بعضهما، منذ الحملة الصليبية الفرنسية على مصر بقيادة المهزوم الخانع لويس التاسع، وصولًا إلى قيام الصهيونية وتقسيمات سايكس بيكو وخِطاب بلفور، ثم تقسيم المُقسَّم مع مشروع برنارد لويس، وإلى يومنا هذا تبقى مصر هي الشوكة الأكبر التي لا شأفة لها والأخطر في حلق الأطماع الغربية الإسرائيلية، لتأتي فكرة العزف على الوتر الثقافي والذي يتطلب وقتًا أطول في توجيه الحس الجمعي وليس الحسم السريع كما تفعلهُ الحروب المُباشرة.
أُنشأت إذاعة الحاخامات ثم إذاعة الجيش الإسرائيلية "غالاتس" في عام 1950؛ حيث كان الهدف المُعلن منهما هو تعزيز الروح المعنوية للشعب الإسرائيلي اللقيط، أما الهدف غير المُعلن فكان يرمي إلى بث روح الضعف والهوان في العرب لا سيَّما المصريين لكثرتهم ولقربهم الجغرافي والعاطفي من مركز الحدث، وبقصد إذكاء الثقافة الانهزامية في شعوب المنطقة، وهو ما يفعله اليوم إيدي كوهين حرفيًا، وقد نجح هذا المُخطط إلى حدٍ ما مع بعض العرب حيث وقعوا في خُدعة تصديق أن إسرائيل قوةٌ لا تُقهر وعليهم الرضوخ والتسليم لهذا الاستنتاج، وهي نفسها نظرية الوهم التي دحضتها المقاومة الفلسطينية في عامين على أرض الواقع، وكانت النتيجة التجريبية مناقضة لعلوم الخرافة الزائفة، ولكن الشعب المصري عمومًا لم ينجَّر وراء كل تلك الأكاذيب والتضليلات؛ لتستمر اللعنة المصرية بلا تميمةٍ أو حل؛ إذ إن معظم المصريين يكرهون إسرائيل ويرجون زوالها؛ بل وازدادت الكراهية عِظمًا خلال السنتين الماضيتين وما اعقب طوفان الأقصى بعد 7 أكتوبر 2023.
إن الضربة الإسرائيلية الأمريكية على قطر وأسف ترامب العاجل قبل أن تبرد دماء الشهداء ثم اعتذار نتنياهو الوظيفي، لا تعني شيئًا حسب موازين القوى، بقدر ما هي رسالة تحديث مُباشرة لإعادة بعض الزعامات العربية إلى بيت الطاعة، ولكن هل تستطيع أن تفعل اسرائيل ذلك مع مصر؟! بالطبع لا لأنها إن فعلت فستوقظ المارد المصري الجاثم على مرمى حجرٍ منها، وهذا هو الجواب على سؤالنا عن السر في مصر، مع أن مصر هي اول دولة عربية أبرمت عقد تطبيع عام 1979 باسم السلام مع إسرائيل بعد مُعاهدة كامب ديفيد بعام، بيد أن تلك العقود المكتبية لم تتمكن من تغيير الفكر الثقافي الشعبي المصري ولا يزال المصريون يؤمنون بأن زوال ذلك الكيان ما هو إلا مسألة وقتٍ فقط، وما الجهود التي تبذلها القوى الغربية إلا مُجرد جُرعات مُسكِّن في عضد الكيان الصهيوني الشائن لإطالة عمره ولن يطول؛ باعتباره حالة ميؤوسًا منها وستُدفن في الوقت المُناسب أو تُحرق عندما تُشرق شمس النصر من المحروسة العظيمة مصر.
إن جُل ما تخشاه الإدارات الإسرائيلية المُتعاقبة هو ثورة الشعب المصري العملاق، ولذلك تحاول بكل الطرق وتعدد الأساليب الناعمة والخبيثة تجنُّبه، ومع كل ذلك لن يطول الأمر أكثر مما طال؛ لأن الحرب لم تنتهي ولن تنتهي هذه المرة، وإنما توقفت مؤقتًا بهدف اسرائيلي أمريكي لضمان استلام أسراهم ثم سيعودون مجددًا سيرتهم الأولى وربما أشد فتكًا، وسوف تنكث إسرائيل بكل العهود والمواثيق كعادتها وباتفاق شرم الشيخ في جنوب سيناء، وهو سببٌ كافٍ جدًا لاستثارة الرأي العام المصري والعالمي، وسوف يتبين حينها أن رهاني على دور مصر غير خاسر.