ذاكرة الرياض.. والطبري

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

 

"ويلاحظ أن الطبري كان يتغاضى عن كثير من الأخبار والروايات التي فيها إساءات لبعض الشخصيات ذات المنزلة الكبيرة في نفوس المسلمين، أو مما فيه فحش في القول مما لا يُحتمل فيتركها" (من مقدمة التحقيق).

*****

من أبرز مقروءات القراء على جميع تنوعات القراءات هي قراءة واقتناء كتب التاريخ، لما فيها من متعة وفائدة و قصص و عظة وعبر مختلفة، وكثير من الكتب الهامة التي صدرت و قرأت عبر التاريخ، من أهمها البداية والنهاية، والكامل في التاريخ و تاريخ الأمم والملوك وغيرها الكثير، كطالب جامعي في قسم التاريخ غالبا ما أسمع بكتاب تاريخ الطبري، وكان من الوثوقية فيه أنه يعد مصدرا أساسيا في دراسة التاريخ والتاريخ الإسلامي خاصة، كتاب أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ليس كتابا عاديا يمر عليه مرور الكرام؛ بل قد يكون درة تاج مؤرخات التاريخ الإسلامي، والمعين الموثوق للنهل منه، وكعادة الكتب المهمة ذات الصيت العلمي المؤثر توالت طبعات الكتاب من عدة دول و ناشرين، و في كل طبعة كانت توجد بعض الملاحظات التي يتوقع ألا تكون مقصودة، وكان من المهم وجود طبعة موثوقة وذات طباعة مناسبة، وعبر مؤسسة لها وجودها وأمانتها العلمية.

وقبل أيام انتشرت أخبار أنه في معرض الرياض الدولي للكتاب المُقام هذه الأيام، ستقوم دارة الملك عبدالعزيز، وهي مؤسسة حكومية تعنى بالتاريخ والنشر، بعرض طبعة جديدة محققة من عشرون مجلدا لكتاب تاريخ الملوك وأخبارهم وموالد الرسل وأنبائهم لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، و كان من المفاجأة السارة والمهمة أيضا أن قائد هذا التحقيق والقائم العلمي عليه هو البروفيسور بشار عواد معروف، وهو العالم المؤرخ الكبير ذو السمعة الطيبة وصاحب المؤلفات الكثيرة في التاريخ، وكذلك وهنا الأهم أنه من المهتمين البارزين في كتاب تاريخ الطبري و في تتبع سيرة الطبري بالذات.

وفي مساء كويتي هادئ بإحدى ديوانيات ضاحية المسايل، دار الحديث حول هذا الحدث الهام، وهو الطبعة الجديدة المحققة لتاريخ الطبري، وأهتم أحد الأحبة وهو أبا ناصر المهندس أحمد الشريع بهذا الموضوع، وقرر السفر لعاصمة أهل الطيب الرياض، رغبة في زيارة المعرض، واقتناء هدية دارة الملك عبدالعزيز للمهتمين بتاريخ الطبري.

وبعد درب سفر طويل بالسيارة عبر فيه أبا ناصر صحاري نجد وهضابها حتى الوصول للعاصمة؛ حيث حطت راحلته في فندق هيلتون الرياض بعد وقت يسير من منتصف الليل، وبعد انتهاء إجراءات دخول الفندق، وأيضا بعد استغراق في النوم الرياضيّ (نسبة إلى الرياض) وبعد تناول وجبة إفطار شهية، بدأ الرحلة إلى الهدف الأهم وهو زيارة معرض الرياض للكتاب.

في المعرض الرائع المزدحم بأرفف الكتب القادمة من كبريات سلاسل دور النشر، بدأت رحلة الكتب مع صاحبنا الذي توجه أولا لبيت القصيد (دارة الملك عبدالعزيز) رغبة في اقتناء بعض من إصداراتها المفيدة، ويا فرحة ما تمت؛ إذ تلكأت أجهزة دفع المال عن قبول مبلغ الشراء، وبعد تعامل راقٍ ومهذب من القائمين، تم تسهيل الأمور ببوادر فردية تحمل عناوينَ من الكرم والشهامة؛ حيث تم تطويق الموقف بمهنية واحتراف.

وبعد اقتنائه الكتاب الثمين، حيث اقتنى عدة نسخ، رغم السعر الباهظ الذي يستحقه الكتاب بالفعل، أدار محرك السيارة للعودة إلى وطن النهار ودرة الخليج، بعد انقضاء المهم من رحلة سياقها يومين فقط، لهدف سام هو كتاب تاريخ الطبري الذي أعتبره الكثيرون هو درة تاج وأهم حدث في معرض الرياض لهذه السنة.

قراءة التاريخ والتبصُّر به ليست ترفا أو روائيات مُسلية؛ بل هي خارطة طريق للعقلاء، وطريق آمن للمستقبل بعد استشرافه من أحداث الماضي وتحولات الحاضر، في أحيان كثيرة أتساءل لماذا نقرأ التاريخ، وماهي الدوافع والمباعث والمبررات لذلك، وما الفوائد، وما درجة الصح والخطأ في كتابته، وهل ضروري نتفاعل وتضيق صدورنا وتفرح قلوبنا بناء على حيثيات الحدث، وهل عندما ندقق جليا في تفاصيل الأحداث، وقتها هل نحن مغفلون وقعنا ضحية لكاتب يؤرخ وممكن جدا يؤلف لأحداث وقعت قبل أكثر من ألف سنة.

لا شك أننا نحسن الظن ونوقر ونوجب ونقدر مؤرخي وكاتبي التاريخ؛ ذلك لأنهم حملوا مهمات جسيمة لا يستطيعها أي بشر، ونقلوا التاريخ بحيثيات قد لا يقدر عليها الكثير، وهم الذين بذلوا الغالي والنفيس من أجل إظهار ما يستطيعونه من نقل لحقيقة الأحداث المؤرخة، لكنهم في نهاية الأمر بشر، وجل من لا يسهو، وإنما البحث والتمحيص والتحقيق لا يقلل من جهدهم، ولا ينزل قيد أنملة من قدرهم الكبير؛ فالعلم متجدد، وأنظمة التحقق كل يوم تفرز جديدا من العلم والمعلومات والمسوغات والاستنباطات المعاصرة.

نرجع للكتاب بيت القصيد، ومعروف أن من حققه أستاذ علم بارز في تحقيق المخطوطات بتجربته وخبرته الثرية وهو البروفيسور بشار عواد معروف، ساعده في تحقيق الطبعة الجديدة د. محمود بشار العبيدي ود. مهران محمود الزعبي.

 وفي مقالة نشرت في مجلة الدارة بعنوان: "تحقيق تاريخ الطبري، لماذا؟"، للدكتور بشار عواد معروف، وهي دراسة نقدية للطبعة المصرية التي طبعت سنة 1960م، وتبين أنّ محققها أعاد طبع الطبعة الأوروبية التي حققها بعض المستشرقين سنة 1890م بأخطائها وعيوبها، فتابع هؤلاء المستشرقين في جميع ما وقعوا فيه من الأخطاء في تصحيف الأسماء والأنساب أو تحريفها، وفي القراءات الفاسدة، والأخطاء المستبشعة في الأسانيد، وما وقع لهم من سقط بسبب عدم الدقة في المقابلة، ونحو ذلك من التحريفات والضبط الغريب. وقد اقتصر البحث على نماذج مما ورد في قطعة من المجلد الثالث من هذه الطبعة المصرية ليكون أنموذجًا لبقيته، ومن هنا اتضح مسيس الحاجة إلى إعادة تحقيق هذا الكتاب الجليل. (مقتبس من مجلة الدارة).

مما ذكر عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري أنه قال عن تاريخه: "فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضيين، مما يستنكره قارئه، أو يستنشعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا".

صدرت هذه الطبعة الجديدة المحققة عن دارة الملك عبدالعزيز في الرياض، بسنة 1447 هجري، الموافق 2025م، وهي الطبعة الأولى من هذا التحقيق الجديد، الذي يقوم على عشرين مجلدا امتلأت بالمخطوطات والتعليقات والهوامش، بالإضافة للكتاب الأصلي، وهو وثيقة تاريخية نفيسة، قام عليها علماء تاريخ كبار، لهم سمتهم وصيتهم ومصداقيتهم وموثوقيتهم، وأتمنى أن يوزع الكتاب ويكون متاحًا للباحثين، وحبذا لما توفرت منه نسخ إلكترونية ليكون هذا الجهد متاحًا بيسر لأهل التاريخ.

وبعد انتهاء الإمام من صلاة الجمعة، في المسجد القريب، وإذا بأبي ناصر بجانبي، وقد وصل للتو من الرياض، وأبلغني بوجود نسخة أهداها لي، جزاه الله عني كل خير ورفع قدره في الدارين، وبارك له في حاله وحلاله وأحواله، وكانت هدية قيمة لها مكانها في النفس.. ذاكرة الرياض.. والطبري.

أسأل الله أن تكون علما ينفع وينتفع به.

الأكثر قراءة