من كثر تراديده!

 

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

 

"سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبالك يسأم"

زهير بن أبي سلمى

*****

في كتب التاريخ والأبحاث المتعلقة به والمقالات، وجمعيات التاريخ المختلف أنواعها، وكتب التاريخ المدرسية، وتسجيلات المؤرخين الشفهية، وهذا قائل، وذاك قيل عنه، ستجد كل شيء وأي شيء، وكل أكثر هذا الشيء وأي شيء تكاد تجزم بمتشابهاته، وتقريبًا نفس الحدث بصيغ مختلفة، وأساليب متنوعة، لسبب بسيط جدا ومفهوم ومجزوم به أيضا أن التاريخ الحقيقي أحيانًا قد لا يكون هو الموجود على الصفحات، وفوق الأوراق، لعدم وجود الحيثيات المتفق عليها في كل تاريخ، لن أصدمك أن قلت لك أغلب كتب هي مستنسخة عن بعضها، فقط الاختلاف في الصيغة وأسلوب طرح الحدث، لأن كثيرا من الأحداث لو تدقق عليها بمجهر دقيق لوجدت اللامعقول يتعدى المعقول.

هنا أنتقد بموضوعية، ولست مهاجما لأحد، ولست أنا من ينصب نفسه حامي حمى التاريخ، فللتاريخ أهله ومُهتميه، والحقيقة الواضحة أن علم التاريخ هو تقريبًا العلم الوحيد الذي بإمكان الجميع التعامل معه وباحترافية، وأعطيك مثالا بسيطا، أنت شخصيا لك تاريخ شخصي بميلادك ومكان ولادتك وما هو بلدك، وأين نشأت بناء على العنوان في البطاقة الشخصية، وحتى تاريخك الدراسي ثنة شهادات معتمدة تثبت إن كنت طالبا نجيبا أم بليدا، وحتى المستشفيات لم تقصر معك وقامت بالواجب ولا تحزن يا ابني فملفك الصحي يتضمن تاريخك من أول بكاء بعد ظهورك للدنيا مرورا بكورونا وصولا إلى آخر دواء أنفلونزا، حتى سيارتك شملها كرم التاريخ وسنجد محتوى تاريخها في أقرب وكالة سيارات قريبة، كل شيء فيه تاريخ، حتى الحلاق يعرف تماما ماهي الحلاقة المناسبة مع ذقن وجهك الطيب، وخياط الملابس توجد لديه تفاصيل الأرقام ومقاسات جنابكم الكريم عندما تفكر في تفصيل  دشداشة  جديدة، أتذكر عدد من الأصدقاء لا يغيرون لا الحلاق ولا الخياط، وهذه إشارة على قناعتهم بالتاريخ وإن بشكل فير مباشر، وكما قال أحد الأصدقاء من أرض الكنانة العزيزة: "كُلُّه بالتاريخ".

 

هل فهمت شيئًا مما سبق، لا عليك سأرجعك لعنوان المقال، ما هو العنوان، "من كثر تراديده"؛ أي من كثرت عباراته المتشابهة، وهكذا المقصد العام من الكتابة لهذا المقال البسيط، وهنا أقصد تداول نفس المعلومات وبصيغ مختلفة فقط للظهور وأثبات الوجود.

المتني، وهو الشاعر الذي سارت بأبياته الركبان له بيت معبر:

وتولّوا بغصّةٍ كلّهم منْه

وإن سرّ بعضهم أحيانًا

هنا، وبعيدًا عن التفسيرات الأكاديمية المعتبرة والمقدرة، لكني سأفسره كما فهمته شخصيا، وهذا الفهم يخص صاحبة ولا ينسحب على أي فهم آخر، المعنى كما فهمته أنه أحيانا يحصل شيء يفهمه البعض سوء ويتولوا بغصة منه، إنما فهمه آخرون بمعنى مختلف وسروا بذلك الفهم، وأظن الصديق العزيز سيكون من القوم الذين سروا ولم تتولاهم الغصة!

قبل أكثر من سنتين وما دام الموضوع عن التاريخ- وما أكثر المكتوب عن التاريخ- كنتُ قد كتبت بحثًا أكاديميًا وأنهيته بعدما تعاملت مع أكثر من 70 كتابًا ما بين مصدر ومرجع، والموضوع عن سقوط إحدى الدول في القرن الماضي، وبعد البحث والتحقق وجدت أن سقوط الدولة لم يكن في الحقيقة للأسباب المذكورة في التاريخ (أقصد الاسباب المنتشر خبرها بين العامة وفوق صفحات الكثير من الكتب) إنما لأسباب داخلية صرفة بدءا بفساد تحت أعين السلطة؛ حيث كانت كثير من مقدرات الدولة يحكمها أجانب، ممن لا يضعون للمصلحة العامة اعتبارًا؛ مما جعل للشجرة تتآكل شيئا فشيئا إلى أن أتى اليوم المشؤوم الذي أنتهى فيه تاريخ الدولة، والتاريخ دروس وعبر، ومن لا يُعين نفسه لا تعينه الناس.

اعتقد ثمة ما يدعو للنفس للاستمتاع بالرحلة وقراءة التاريخ بحقيقته، وجعل السفينة تجري بما تشتهيه الرياح، والتسليم لقوانين الطبيعة بالحياة، وألا نحاول الركوب فوق الموج، وأن لا نغير وجهة السفينة، وأي مرسى نريده نحن؛ بل نسلم الأمر للرياح، وهي من يتكفل لقيادتنا للميناء، أو تفرقنا في غبة المجهول من البحار.

وكما قال أبوالطيب المتنبي:

ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ

تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ

قراءة التاريخ فيها عبر وفيها اعتبارات، والتاريخ ليس تاريخ الدول فحسب، إنما حتى الأفراد لهم تاريخهم المقدر، ولو تجولت لبرهة في وسائل التواصل لقرأت عن حساب يخص القبيلة الفلانية ومناسباتها، وحساب يرصد ويغطي مناسبات العائلة العلانية، وكلها في مجملها تاريخ وإن بأطر متنوعة. التاريخ لن يتركنا حتى هذا المقال سيكتب له تاريخ قبول للنشر او رفض، وإن نشر سيكتب تاريخ نشره، كل شيء محدد بتاريخ، لكن أقتنع وأقنع بأن اثنتين لن يَعلَمهما بشر: ساعتُك ورزقك.

الأكثر قراءة

z