صالح بن سعيد الحمداني
مرّ عامان على عملية "طوفان الأقصى" التي انطلقت فجر السابع من أكتوبر 2023، لتكون الشرارة التي هزّت المنطقة والعالم وغيّرت معادلات الصراع العربي الإسرائيلي من جذورها، لم تكن مجرد عملية عسكرية مُباغتة لقد كانت صرخة شعبٍ حُوصر حتى الاختناق ونذيرًا بأنَّ الصمت الطويل يولّد الانفجار.
واليوم وبعد مرور عامين على تلك اللحظة المفصلية لا تزال غزة تنزف ولا يزال العالم يقف على أطلال إنسانيته المزعومة فيما يكتب الفلسطينيون بدمائهم أسمى معاني الصمود والثبات، فمنذ فجر ذلك اليوم الذي انطلقت مجموعات المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة في عملية غير مسبوقة من حيث التخطيط والدقة والجرأة تجاوزت فيها الحواجز الأمنية الإسرائيلية واخترقت التحصينات التي طالما تباهت بها تل أبيب. العملية التي سُمّيت بـ"طوفان الأقصى" لم تكن وليدة اللحظة وإنما جاءت بعد سنوات من الحصار والتهويد والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى وتوّغُل الاحتلال في الضفة والقدس وتواطؤ المجتمع الدولي مع معاناة الفلسطينيين.
كان هدف المقاومة واضحًا بكسر المعادلة وتأكيد أن غزة ليست سجنًا وأن القدس ليست ورقة مساومة، وفي الساعات الأولى اهتزّت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وتهاوت أسطورة "الجيش الذي لا يُقهر" وساد الذهول عواصم العالم، ولكن ما تبع ذلك كان مأساة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فقد شنّت إسرائيل حربًا شاملة على قطاع غزة واستخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المحرّمة ودمرت البنية التحتية للقطاع بالكامل تقريبًا، وخلال العامين الماضيين قُتل أكثر من 120 ألف فلسطيني وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية مُعظمهم من النساء والأطفال، وسُوّيت أحياء بأكملها بالأرض من الشجاعية إلى خان يونس ومن رفح إلى جباليا وتحولت غزة إلى ركامٍ لا يهدأ فيه الغبار.
لم تقتصر المأساة على القتل والدمار فقد تجاوزتها إلى كارثة إنسانية شاملة، فقد هُجّر أكثر من مليوني فلسطيني من بيوتهم وتحوّل القطاع إلى أطول معسكر لجوء مفتوح في التاريخ، يعيش الناس بلا ماء ولا كهرباء ولا غذاء كافٍ والمرض ينتشر مع انهيار المنظومة الصحية فيما يقف العالم متفرجًا وعاجزًا أو متواطئًا، على مدار العامين قدّمت المقاومة الفلسطينية كوكبة من خيرة قادتها وشبابها شهداء في سبيل القضية، استُهدفت قيادات الصف الأول في كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها من فصائل المقاومة لكن دماءهم لم تُطفئ جذوة النضال ولكنها زادته اشتعالًا سقط القادة وهم يبتسمون وورث الراية من بعدهم رجال لم يعرفوا الراحة ليؤكدوا أن غزة لا تُكسر وأن المقاومة فكرة لا تُغتال، وكم من أسر مسحت من السجلات بأكملها لأنَّهم شهداء بإذن الله، ولعل أكثر ما ميّز هذه المرحلة هو الالتفاف الشعبي غير المسبوق حول خيار المقاومة، فالشعب الفلسطيني رغم الجراح تمسك بالأمل ووقف خلف مقاتليه بإيمانٍ راسخ بأن الحرية لا تُمنح وإنما تُنتزع انتزاعًا.
كشفت حرب غزة الأخيرة الوجه الحقيقي للمجتمع الدولي الذي لطالما تحدث عن "حقوق الإنسان" و"القانون الدولي"، فحين سُفكت دماء الفلسطينيين خيّم الصمت على العواصم الغربية واندفعت واشنطن ولندن وباريس لتبرير جرائم الاحتلال بحجة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وكأن الفلسطيني بلا حق في الحياة، ولكن في المقابل شهد العالم أيضًا تحولًا في الوعي الشعبي العالمي، فقد خرجت مظاهرات ضخمة في مدن أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية دعمًا لغزة وارتفعت الأصوات التي تطالب بمحاسبة الاحتلال ووقف تسليحه، وقبل "طوفان الأقصى" كانت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى قد طرحت ما عُرف بـ"صفقة القرن" وهي الخطة التي حاولت تصفية القضية الفلسطينية نهائيًا تحت شعار “السلام الاقتصادي”، أرادت واشنطن فرض واقع جديد يجعل من القدس عاصمة موحدة لإسرائيل ويُسقط حق العودة ويحوّل غزة إلى كيان معزول يعيش على المساعدات.
لكن ما لم تدركه الإدارة الأمريكية آنذاك هو أن المقاومة كانت تتهيأ لردّ من نوع آخر، فـ“طوفان الأقصى” جاء بعد ثلاث سنوات من تلك الخطة وكأنه الرد العملي عليها، لقد قلبت المقاومة الطاولة على ترامب ومن بعده بايدن وترامب في ولايته الحالية وأثبتت أن الشعب الفلسطيني ليس رقمًا في معادلات البيت الأبيض ولكنه فاعلٌ حقيقي في مسرح الأحداث، وأما حركة حماس فقد تعاملت بذكاء سياسي لافت مع خطة ترامب؛ سواء خطته في ولايته السابقة المعروفة بصفة القرن أو مع خطته الجديدة الأخيرة حول إيقاف الحرب في غزة، فالمقاومة لم تنجرّ وراء الاستفزازات بل تركت الخطة تموت في مهدها ثم جاءت العملية لتكون كـ“حصان طروادة” عكسي أعاد الكرة إلى مرمى واشنطن وتل أبيب وكشف زيف ادعاءاتهم بالسلام، ومنذ ذلك اليوم باتت إسرائيل هي من تبحث عن مخرجٍ سياسي يحفظ ماء وجهها لا المقاومة، فقد سقطت الأقنعة... وأثبتت صمود الرواية الفلسطينية، بعد عامين من الحرب أثبتا أنَّ إسرائيل ليست قدرًا وأن مشروعها الاستعماري يمكن أن يتصدع من الداخل، فالمجتمع الإسرائيلي يعيش اليوم أزمة غير مسبوقة سياسية وأمنية ونفسية فيما باتت الثقة بين القيادة والجيش في أدنى مستوياتها، بينما في المقابل نجح الفلسطينيون رغم المأساة في الحفاظ على وحدتهم الميدانية وفي فرض روايتهم على العالم، الإعلام الحر وشبكات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا حاسمًا في فضح الجرائم حتى أصبح اسم "غزة" عنوانًا عالميًا للكرامة والمقاومة، ولعل أبرز ما تم في الأحداث الأخيرة اسطول الصمود وكيف فضح وكشف حقيقة الواقع المرير، وكذا الحال في خطة إيقاف الحرب المزعومة، التي تعاملت معها حماس بذكاء وحنكة، من خلال ردٍّ اعتبره كثير من المحللين ردًا حكيمًا.
بعد عامين على طوفان الأقصى لا تزال غزة جريحة لكنها واقفة، لا تزال القنابل تنهال لكنّ الأمل لا يموت، ولن يموت أبدًا فكل طفل ينجو من تحت الركام هو مقاوم في طور التكوين وكل أمّ تبكي شهيدها تزرع في الأرض بذرة عزيمة جديدة، لقد أرادت إسرائيل أن تُطفئ نار المقاومة فإذا بها توقظ ضمير العالم، وأراد ترامب بخطته أن يطوي صفحة فلسطين فإذا بها تُفتح من جديد بدماء الأحرار، وبينما تتآكل شرعية المحتل تتجذر القضية أكثر في وجدان الأمة لتقول غزة للعالم "قد نحترق لكننا لا ننطفئ".