مواءمة مناهج التعليم مع سوق العمل

 

 

أمل بنت سيف الحميدية **

تعيش المجتمعات المُعاصرة عصرًا يتسم بتسارع غير مسبوق في التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، حيث أحدثت الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي تحوّلات جذرية في بنية سوق العمل ومهاراته؛ وذلك استنادًا إلى تقرير وظائف المستقبل الصادر في 2016 عن المنتدى الاقتصادي العالمي.

وأمام هذه التطورات، لم يعد التعليم هدفًا بذاته، بل أصبح وسيلة استراتيجية لتأهيل القوى العاملة الوطنية، وتحقيق التنمية المستدامة وضمان تنافسية الدول في مؤشرات الاقتصاد القائم على المعرفة. وقد أشارت دراسة للباحث عامر سلطان الهاجري (عام 2002) إلى أنّه، وبرغم الجهود المبذولة، ما زالت الفجوة قائمة بين مخرجات التعليم ومتطلبات التوظيف. فالكثير من المناهج في الدول العربية والخليجية، ومنها سلطنة عُمان، تركز على الجانب النظري والحفظ، بينما يتطلب السوق خريجين قادرين على حل المشكلات المُعقدة والعمل في بيئات متغيرة. ونتيجة لذلك، يعاني عدد من الخريجين من صعوبة في الاندماج في سوق العمل، خاصة في القطاعات التقنية والحديثة، وهو ما أكدته أيضًا دراسة للباحثة هناء محمد أمين في عام 2012.

وبحسب مكتب الشبكة الخليجية لضمان جودة التعليم العالي (في تقرير صادر عام 2022)، فإنَّ التحولات الجوهرية في المهارات الأكثر طلبًا عالميًا بين عامي 2015 و2020 تكشف عن تغيرات لافتة. فقد كانت قائمة أهم عشر مهارات في عام 2015 تضم: حل المشكلات المعقدة والتنسيق مع الآخرين وإدارة الأفراد والتفكير النقدي والتفاوض ومراقبة الجودة وتوجيه الخدمات والحكم واتخاذ القرار والاستماع النشط وأخيرًا الإبداع. أما في عام 2020 فقد شهدت القائمة تغيرًا ملحوظًا؛ إذ برزت مهارات جديدة مثل الذكاء العاطفي والمرونة المعرفية، إلى جانب استمرار مهارات أساسية كحل المشكلات المعقدة والتفكير النقدي والإبداع وإدارة الأفراد والتنسيق مع الآخرين والحكم واتخاذ القرار وتوجيه الخدمات والتفاوض.

ويؤكد تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2025، أن هذه التحولات ليست آنية فحسب، بل ستستمر بوتيرة متسارعة، حيث يُتوقع أنّ 39% من المهارات الأساسية ستتغير بحلول عام 2030. كما يُشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023 إلى أن 6 من كل 10 موظفين عالميًا سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهاري (reskilling) أو تطوير مهاري (upskilling) خلال السنوات الخمس المقبلة، في حين لا تتوافر فرص التدريب المناسبة سوى لنصفهم فقط. وتشير بيانات واردة في ذات التقرير كذلك إلى أنّ التفكير التحليلي والإبداع سيكونان في صدارة أولويات التدريب. وتُظهر هذه الأرقام والمؤشرات مجتمعة أنَّ سوق العمل في عصر الثورة الصناعية الرابعة يتطلب قدرات عقلية ومهارية مُتقدمة تتجاوز المعرفة النظرية، وتُركز على الإبداع والقدرة على التكيف والمهارات الإنسانية والتكنولوجية معًا.

ويشير تقرير وظائف المستقبل الصادر عام 2016، عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أنّ المهارات الأكثر طلبًا عالميًا تتمثل في التفكير النقدي والابتكار والمرونة المعرفية، إضافة إلى الكفاءات الرقمية مثل تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة. وفي السياق العُماني، أوضحت الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 ضرورة تضمين هذه المهارات في المناهج لمواجهة تحديات البطالة وتقلّب أسواق العمل.

وبحسب تقرير لشركة الأبحاث "برايس ووترهاوس كوبرز" عام 2022، فقد تبنت بعض الدول المتقدمة مُبادرات تعليم الثورة الصناعية الرابعة 4.0 التي تقوم على التعلم بالمشروعات والتقنيات الرقمية والشراكات بين الجامعات وقطاعات الأعمال. أما تقرير شركة ماكنزي للاستشارات الصادر عام 2018، فقد أشار إلى أن دول الخليج العربي قد اتجهت لتطوير مناهجها بما يتماشى مع الثورة الصناعية الرابعة 4.0، وتوسيع برامج التدريب العملي وربطها بالتنمية الاقتصادية. هذه التجارب تؤكد أن الإصلاح التعليمي لا بد أن يتكامل مع حاجات السوق الفعلية.

وعلى المستوى الوطني، تعد رؤية "عُمان 2040" إطارًا استراتيجيًا يُركِّز على التعليم والبحث العلمي والابتكار كأولوية وطنية. كما تضع الاستراتيجية الوطنية للتعليم 2040 تحديث المناهج وربطها بسوق العمل في مقدمة أهدافها. أما الإطار الوطني لمهارات المستقبل (الصادر في 2021) فقد حدّد بوضوح المصفوفة الأساسية للمهارات الرقمية والإبداعية التي يحتاجها سوق العمل العُماني. ويشير تقرير مجموعة أكسفورد لعام 2025 حول تحليل سوق العمل في سلطنة عُمان إلى حاجة متزايدة للمهارات الرقمية والخضراء؛ بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.

ولتقليص الفجوة بين التعليم وسوق العمل في سلطنة عُمان، يمكن اقتراح عدة خطوات عملية: أولًا: تسريع المراجعة الدورية للمناهج وربطها مباشرة بمصفوفة مهارات المستقبل الوطنية، ثانيًا: توسيع نطاق الشراكات بين الجامعات والقطاع الخاص، خاصة في مجالات الاقتصاد الرقمي والطاقة المتجددة والصناعة المتقدمة، ثالثًا: اعتماد التعلم القائم على المشروعات والتدريب التعاوني كعنصر أساسي في المقررات، رابعًا: إنشاء مراكز مهارات وطنية متخصصة في الذكاء الاصطناعي، الطاقة المتجددة، والتقنيات الصناعية الحديثة.

وعليه.. فإنَّ مواءمة مناهج التعليم مع متطلبات سوق العمل لم تعد خيارًا ثانويًا؛ بل غدت ضرورة وطنية مُلحّة لرفع تنافسية سلطنة عُمان وتحقيق أهداف رؤية "عُمان 2040"؛ فكل استثمار في التعليم هو استثمار مباشر في الاقتصاد الوطني واستدامة التنمية.

** باحثة تربوية

الأكثر قراءة