القيمة القانونية والدلالة السياسية لموجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية

 

 

د. عبدالله الأشعل **

يعلم الغرب الحقائق الآتية: الأولى: أن إسرائيل تجسيد للمشروع الصهيوني الذي يريد التهام كل فلسطين، ويعلم قول نتنياهو أن فلسطين للصهاينة، وهو لا يمانع في إقامة دولة فلسطينية وتحقيق آمال الشعب في ذلك، لكن إقامتها خارج فلسطين، واقترح إقامتها على الأراضي السعودية!

كما يعلم الغرب أن الإجماع في إسرائيل حول هذه الحقيقة قائم، ولذلك صدر قانون حظر إقامة دولة فلسطينية في فلسطين بالإجماع من الكنيست الإسرائيلي. وقد صدر هذا القانون مرتين: عام 2017 وعام 2024. ويعلم معظم الغرب أنه يدعم إسرائيل في موقفها.

الثانية: أن الغرب يعلم أن الأولوية في إنقاذ غزة من الهلاك، ووقف الإبادة، وإغاثة السكان. ولكن الغرب الذي عجز عن إنقاذ غزة، لجأ استجابةًً لحركة الشارع إلى هذا الموقف السياسي، والذي يدرك أنه تحدٍ لإسرائيل وأمريكا. فكيف يعترف الغرب بكيان مرفوض من إسرائيل المسيطرة على الأرض؟

الثالثة: أن الغرب يعلم أن الدولة الفلسطينية قائمة منذ عام 2012، ويعلم أن المشكلة هي الاحتلال الصهيوني لأراضي هذه الدولة. والمطلوب الضغط على إسرائيل للانسحاب.

ويعلم الغرب أيضًا أنه بقيام الدولة الفلسطينية انتهت منظمة التحرير الفلسطينية، وتحولت السلطة إلى حكومة لهذه الدولة الفلسطينية. والدولة الفلسطينية عضو مراقب في الأمم المتحدة، وأنها تُقاضي أمريكا أمام محكمة العدل الدولية منذ عام 2018 لنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس الشرقية، وهي أراضٍ فلسطينية محتلة وفق قرار مجلس الأمن 242 عام 1967.

الرابعة: يعلم الغرب أن أمريكا متواطئة مع إسرائيل في الإبادة وفي مصير المقاومة، فلو كانت ضربة إسرائيل لقطر قد نجحت في اغتيال قيادة المقاومة، لكان ترامب أول المهنئين. وعندما تتكلم قطر عن الغدر، تقصد ترامب تلميحًا لا تصريحًا.

الخامسة: يستحيل أن يعادي الغرب أمريكا، وأن الاعتراف يلحقه إقناع أمريكا بأنه لصالح إسرائيل. ويعلم الغرب أن إصراره على الاعتراف بالدولة الفلسطينية يعلم أيضًا أنه لا قيمة قانونية لهذا العمل، كما ليس له قيمة عملية، فكل شيء مرهون برضا إسرائيل وقرارها. بينما الغرب يدرك أن الاعتراف هو تحدٍ لأمريكا وإسرائيل سياسيًا، ويمكن تجاوزه.

السادسة: أعتبرُ الغرب منافقًا لأنه صنع إسرائيل وساندها وأمدها بأسلحة الإبادة. ولا يمكن أن يخسر رضاها. والمطالبة بانسحاب إسرائيل أسهل من تقوية الجانب الفلسطيني، ما دام الطرف الصهيوني مصرًّا على وجوده وحده في فلسطين.

السابعة: مهما اعترف بفلسطين دون موافقة أمريكا وإسرائيل، من الناحية الواقعية، فلن توجد هذه الدولة، وفي المقابل تعاني إسرائيل من نقص في شرعيتها رغم أنها تملك الواقع. فواقع إسرائيل يعطل إنشاء الدولة الفلسطينية مهما كانت شرعيتها.  وفائض القانون للدولة الفلسطينية بغير تغيير الواقع لا قيمة له.

الثامنة: أن مسرحية "حل الدولتين"، في الوقت الذي تعلن فيه إسرائيل استحالة إقامة دولة فلسطينية، لا يجدي؛ إن الاعتراف يفاقم الصراع بين الإرادة الدولية وإرادة إسرائيل، وحين يدرك الغرب أنه يتحدى إسرائيل، سوف يتراجع الغرب كالعادة، خاصة وأن أسطورة حل الدولتين أنتجت الصيغة العربية التي يجب مراجعتها لأنها تجور على حقوق فلسطين.

أعلمُ أن سبب مرونة الموقف العربي دافعه إغراء إسرائيل للقبول بهذه الصيغة.

التاسعة: أن الغرب يعلم أن إسرائيل تصنف كل الشعب الفلسطيني على أنه "إرهابي"، ويعلم الغرب قطعًا أن السابع من أكتوبر- الذي يعتبره ترامب أبشع يوم في التاريخ- عمل مشروع في إطار حق المقاومة ضد المشروع الصهيوني.

ويعلم الغرب من هو الإرهابي: اللص أم صاحب البيت المدافع عنه ضد اغتصاب اللص للبيت.

العاشرة: يعلم الغرب أيضًا أنه زرع إسرائيل بدعاوى وأكاذيب معروفة، وأن ما تراه إسرائيل لا يستطيع الغرب تحديه، علمًا بأن الغرب يضم دولًا عديدة، بعضها متعاطف مع الحق، لكن الضغط الأمريكي أقوى.

حادي عشر: يدرك الغرب أن الاعتراف بدولة فلسطين يقترن بميزة لإسرائيل، وهي القضاء على المقاومة، وهو هدف يتفق الجميع، الغربي والأمريكي، عليه.

ثاني عشر: يدرك الغرب أن المقاومة تنتصر بالصمود، وأن انتصار المقاومة سيزيل إسرائيل ويغير قواعد العلاقات الإقليمية. ويدرك الغرب جيدًا أن العزلة تهدد وجود إسرائيل، وأن شعوب المنطقة والعالم معبأة ضد إسرائيل. ولذلك فإن إحياء حل الدولتين هو لصالح تثبيت إسرائيل وتسيدها، وسوف تضطر إسرائيل إلى ذلك مقابل وضع قيود على الدولة الفلسطينية. أما موقف بريطانيا فينسجم مع تصريح بلفور، وهو إقامة وطن قومي لليهود الصهاينة في فلسطين، ولم يقل فلسطين كلها لليهود. وقال وزير خارجية فلسطين ما معناه تعليقًا على الاعتراف البريطاني: إنه تكفير عن جريمة تمكين اليهود من فلسطين في طريق آخر.

الخلاصة.. إنَّ موجة الاعتراف تدعم سياسيًا الجانب الفلسطيني، لكنها لا تضيف جديدًا على صعيد القانون، وإنْ كانت تمثل تحديًا سياسيًا للمشروع الصهيوني بأن فلسطين للشعبين: صاحب البيت واللص، تعويضًا عن عجزها عن إنقاذ غزة من الإبادة.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

الأكثر قراءة