الصراع القادم بين الهوية العربية والهوية الصهيونية

 

 

 

 

د. عبدالله الأشعل **

 

المشروع الصهيوني هو البداية، وقد صُمم على أساس التخفي والتعتيم في مراميه وأهدافه، وذلك لإيجاد أكبر عدد ممكن من الصهاينة الذين يُسمّونهم يهودًا، وطالما قبل اليهودي أن يكون صهيونيًا أصبح صهيونيًا فقط، ولا يُمكن الجمع بين اليهودية والصهيونية. 

والمشروع الصهيوني كان يهدف في مراحله الأولى إلى الاستيلاء على فلسطين بمساعدة بريطانيا العظمى، وأيّدته أمريكا بشكل غير مباشر قبل الحرب العالمية الثانية. 

فقد قبلت الولايات المتحدة المشروع الصهيوني مبكرًا، وعقدت لذلك مؤتمرًا في بوسطن قريبًا من واشنطن عام 1922، بعد أن ضمنت نظام الانتداب في مؤتمر فرساي، كما ضمنت تعهد الحكومة البريطانية بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبالفعل تسرب اليهود من أوروبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حتى إذا ما انعقد مؤتمر فرساي عام 1918، كانت نسبة اليهود الصهاينة إلى مجموع سكان فلسطين محدودة، ولذلك نشأت الوكالة اليهودية لكي تشرف على عملية التهجير إلى فلسطين، غير أنَّ هذه النسبة لم تكن كبيرة بحيث تُسعف اقتراح قيام إسرائيل في ذلك الوقت. 

والصراع في الشرق الأوسط بدت ملامحه منذ نشأة إسرائيل عام 1948، وكان لا بد من استئناس مصر التي كانت صخرة في وجه المشروع الصهيوني، فلما اتخذ الملك فاروق موقفًا عنيفًا ضد إسرائيل، قدّر الأمريكيون والإنجليز أن مصر تحت الملك فاروق خطر على إسرائيل، ولذلك اعترف رئيس وزراء بريطانيا عام 2017 بدور بريطانيا العظمى في ترتيب الأوضاع في الدول المجاورة لإسرائيل، بحيث ينطلق المشروع الصهيوني، خاصة وأنَّ هذا المشروع موجّه إلى مصر أساسًا باعتبارها ركيزة العالم العربي والإسلامي. 

ولا تزال كثير من السياسات البريطانية والأمريكية تجاه مصر، خاصة في مرحلة حكم جمال عبد الناصر، غامضة، وانتهت هذه السياسات بهزيمة مصر عام 1967، وبذلك انفتح الطريق أمام المشروع الصهيوني لكي يزدهر في عصر السادات والحكام الذين جاءوا بعده. 

ولذلك فإنَّ المشروع الصهيوني ظنّت إسرائيل أنه وصل منتهاه، وخطّطت لإقامة "إسرائيل الكبرى" بعد أن ظنّت أن مصر انتهت قوتها بالتآمر عليها في عدة قطاعات، أهمها مياه النيل، فتبيَّن أن ترامب وإسرائيل هم الذين ساندوا إثيوبيا واستقوت بهم ضد مصر. وإسرائيل الكبرى تعني انتهاء المشروع الصهيوني بنجاح، لأنها تتجاوز فلسطين إلى هوية المنطقة. 

وفي السبعينيات من القرن الماضي راود هذا الحلم شمعون بيريز، الذي أخرج كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، وحلم بأن الشرق الأوسط بزعامة إسرائيل الكبرى يحل محل العالم العربي، على فرضية أن الغرب تملَّك إرادات العرب. ولذلك فإن نتنياهو من أعلن الحرب المقبلة على أساس بداية إسرائيل الكبرى وتغيير هوية المنطقة من عربية إلى صهيونية، وأغراه بذلك سكوت كل الحكام العرب على انفراد إسرائيل بغزة، وظن أن الشعوب العربية قد استكانت لهذه الفكرة، وأن الحكام العرب أصبحوا رهن إرادته، وظن أنَّه فهم العرب تمامًا، ولذلك ترتسم صورة المشهد ومسرح الصراع القادم بين طرفين: الطرف الأول هو إسرائيل وأمريكا وبعض الدول الغربية في روح استعمارية جديدة، مختلفة تمامًا عن الروح الاستعمارية السابقة. الغرب الاستعماري التقليدي كان يطمع في ثروات المنطقة فقط، وليس في إخضاعها، وليس في أرضها أو هويتها، فقد رحل الاستعمار التقليدي وترك العرب عربًا، وترك فيهم إسرائيل تعربد بدعمه ومساندته، ولكن العصر الجديد والصراع الجديد هو إحلال الشرق الأوسط بالهوية الصهيونية محل العروبة، ولذلك فإنَّ هذه المقالة ترصد أطراف الصراع الجديد وملامح الصراع وتحدياته ومآلاته. 

أولًا: أطراف الصراع واضحة، وهي إسرائيل والغرب من ناحية، والعالم العربي من ناحية أخرى، مسنودًا من الحكام العرب. 

إن الحاكم العربي في أعماقه رصيد للعروبة ونخوتها، ولكن تعطلت بفعل الضغط الغربي عليه، ولذلك أعتقد أن الحكام العرب سيخرجون من عباءة الغرب، حتى الدول التي انغمست في الصهيونية، ففي أعماقها عروبة دفينة، وواجبنا أن نقوي المناعة العربية لدى الشعوب والحكام العرب، وألا نلجأ إلى لغة التخوين، فنحن في أمسّ الحاجة إلى توحيد الجهود لصد الهجمة ضد الهوية العربية، وأظن أن بعض الحكام انقلب على الغرب بشكل جزئي، وكلما تقدم مشروع تغيير الهوية انحاز الحكام العرب إلى العروبة، أما تقوية المناعة العربية فهو دور النخبة الجديدة الملتزمة بالصحيح من معاني العروبة، وليس بالشعارات التي راجت في الستينات من القرن الماضي حتى أوائل هذا القرن وغزو العراق. 

أما لغة النخبة، فلا أظن أنها ستفلت بسهولة من مؤامرات الغرب وإسرائيل. فمهما كانت أخطاء الحاكم العربي، فنحن أولى به من أعدائنا. فمؤامرات إسرائيل لا حدود لها، ولكن أهم المؤامرات هي التشكيك في العروبة، كما يحدث الآن في بعض الدول العربية، وقد سمعت خطابًا في مصر من نماذج هذه المؤامرات، وهي أن العرب البدو قاموا بغزو مصر تحت راية الإسلام، وأن مصر ليست عربية ولا إسلامية، وزاد من لهيب هذه المعركة الصراع على السلطة بين بعض الأطراف المصرية، والاتهامات المتبادلة بالعمالة للخارج، وواجبنا أن نؤصل انتماء مصر العربي والإسلامي بعيدًا عن التهم التي توجه إليها، ومصر أعظم قامة من كل الأجيال التي سكنت عليها، ولابد أن تبذل مصر كل الجهود لتجميع العالم العربي تحت راية واحدة، وأن تبتعد عن شعار الوحدة العربية والقومية العربية التي تسللت إلى الشعارات، واستخدمها أعداؤنا ضدنا، ولابد أن تكون مصر قدوة لكل العرب بالتقدم والتعايش وتسوية المنازعات، وحذارِ أن تتكتل أو تنضم إلى أجنحة متفرقة. 

يقابل هذا المعسكر بقيادة مصر، إسرائيل والغرب المصِرّ على الاستعمار الجديد، هذه المرة بزعامة إسرائيل، بعد أن تغير هوية المنطقة العربية إلى الصهيونية، وتستخدم العرب عبيدًا في إسرائيل الكبرى، وليحذر الحكام العرب من أن الشعوب العربية لديها رصيد هائل من الأصالة العربية، ولكننا لا نوافق على الصدام بين الحكام والشعوب، فكما قلنا نحن أولى بحكامنا من أعدائنا الذين يراهنون على استعباد العرق العربي. 

أما أوراق إسرائيل والمعسكر الآخر، فهي استمالة الحكام إلى المشروع الصهيوني، والوقيعة بين الحكام والشعوب. أما حلفاء المعسكر العربي، فهم إيران والصين وروسيا، دون أن يحارب العرب نيابة عن الشرق معاركه مع الغرب، والسبيل لذلك شرح خطوط المؤامرة وتبسيطها للمواطن العربي أينما كان، وأن هذا التحالف العربي الإيراني بالذات تحالف استراتيجي لا يرتبط بمصالح معينة بين أبناء المنطقة الواحدة، وحبذا لو تحالف العرب مع الفرس ومع الأتراك لصد الهجمة الصهيونية واقتلاع السرطان الصهيوني من المنطقة. 

لذلك، الغرب يريد أن يوقع بين الحكام العرب وبين المقاومة ضد إسرائيل، ونحن لا بد أن ندعم المقاومة، لأن المقاومة هي خط الدفاع الأول عن مصر العربية الإسلامية. 

أما تحديات المشروع الاستعماري الجديد، فهي وعي الشعوب العربية بالمخاطر، خاصة وأن الحكام العرب كانوا ضحايا الغرب وأدواته للصدام مع الشعوب العربية، كما أن المقاومة تعتبر ورقة رابحة في يد المعسكر العربي والإسلامي، وليثق العرب أن الإسلام قرين العروبة، وأن أهل الكتاب عاشوا تحت راية الإسلام في أمان وسلام، ولكن الغرب هو الذي فرّق بينهم. والفهم الصحيح للدين وعلاقته بالوطن واجب النخب الجديدة.  وسوف تفشل هذه الهجمة الصهيونية كما فشلت الهجمات السابقة عبر التاريخ. 

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

الأكثر قراءة