صالح بن سعيد الحمداني
في زحام الحياة اليومية وبين ضجيج المواقف والأحداث نجد أنفسنا محاطين بأشخاص كثيرين يتقنون فنّ الحديث، ويُبرعون في صياغة النصائح وتقديم المواعظ، لكن أفعالهم تأتي على النقيض تمامًا مما يقولون، فهم أولئك الذين يرفعون شعارات المثالية، ويطالبون الآخرين بالالتزام بالقيم والمبادئ، بينما واقعهم الشخصي لا يعكس نصف ما يتحدّثون به، تراهم يرفعون رؤوسهم فوق هامات السحاب ويظنون أنفسهم وحدهم على صواب فيما كل من حولهم على خطأ.
هذه الظاهرة ليست جديدة على المجتمعات البشرية لكنها مع مرور الزمن أصبحت أكثر وضوحًا ربما لأننا نعيش اليوم في عصر يكشف التناقضات بسرعة غير مسبوقة، وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي جعلت حياة الناس كتابًا مفتوحًا ولم تعد الأقنعة قادرة على إخفاء التباين الكبير بين القول والفعل ومع ذلك لا يزال كثيرون يصرّون على تجاهل حقيقة أنفسهم ويغفلون عن أن النقد البنّاء يبدأ من الداخل، من وقفة صادقة مع النفس قبل محاسبة الآخرين.
ومن البديهي والطبيعي أن الخطأ جزء من إنسانيتنا؛ فالإنسان بطبيعته كائن غير معصوم والخطأ جزء أصيل من تجربته الحياتية، كلّنا نخطئ وكلّنا نمرّ بمحطات ضعف أو سوء تقدير أو قرارات غير صائبة، ولكن الفرق الحقيقي بين إنسان وآخر هو القدرة على الاعتراف بالخطأ ومراجعة الذات مقابل الإصرار على التبرير أو التظاهر بالمثالية الزائفة.
إن الوقوف مع النفس لحظة صدق واحدة قد يختصر على الإنسان سنوات من العيش في أوهام الكمال، وهذه الوقفة تمنحه فرصة لرؤية الأمور من زاوية مختلفة وفهم تأثير أفعاله على نفسه وعلى الآخرين، فالحياة كما يقولون لا تعطي دروسها مجانًا، لكنها تمنح الحكمة لمن يتأمل ويستخلص العبر، فالحياة… بحر متلاطم الأمواج فهي تشبه بحرًا واسعًا بأمواجه العاتية حينًا وهدوئه العابر أحيانًا أخرى، فيها كل لون وطيف، وكل فعل وقول، وكل خطأ وصواب، لذلك من الطبيعي أن نواجه مواقف نكون فيها على خطأ وأخرى نكون فيها على صواب، ولكن الخطورة تكمن حين يعتقد الإنسان أنه دائمًا على النهج الصحيح بينما الآخرون جميعًا تائهون.
هذا الاعتقاد لا يخلق سوى الغرور والجمود الفكري ويمنع صاحبه من رؤية الحقائق كما هي، فالمراجعة المستمرة للنفس تشبه البوصلة التي تعيدنا إلى الطريق الصحيح كلما انحرفنا أو ضللنا الاتجاه، إنها أشبه بوقفة صادقة أمام المرآة لا لنجلد أنفسنا بل لنُصحّح المسار قبل فوات الأوان، وعلينا أن لا نخشَ في الحق لومة لائم، ففي خضم هذا كله علينا أن نتذكر أن السعي نحو الطريق المستقيم لا يعني الخوف من آراء الناس أو أحكامهم، فالحقّ يبقى حقًا حتى لو عارضه الجميع، والخطأ يبقى خطًا مهما حاول البعض تجميله، لذلك يجب أن نكون شجعانًا في مواجهة ذواتنا أولًا، قبل أن نطالب الآخرين بالالتزام بالقيم والمبادئ.
الإنسان الحقيقي لا يقاس بكثرة ما يقول بل بمدى تطابق أفعاله مع أقواله، الكلمة تفقد معناها إن لم تدعمها المواقف والمواعظ لا قيمة لها إن لم تتجسّد في سلوكيات واقعية، وما أحوجنا اليوم إلى القدوة الحسنة، لا إلى الخطب الرنانة التي لا تعكسها الأفعال.
ومن هنا نجد هنالك دعوة للتأمل والمراجعة، وإن رسالتي لكل إنسان يقرأ هذه السطور هي "توقف قليلًا وانظر إلى نفسك قبل أن تحكم على الآخرين، اسأل نفسك بصدق أين أنا من هذه المعادلة التي أخوضها كل يوم؟ هل أقوالي تشبه أفعالي؟ هل أنا مستعد للاعتراف بأخطائي وتعلم دروسي؟".
الحياة قصيرة ولا تستحق أن نقضيها في تبرير الزلات أو ادعاء المثالية، الشجاعة الحقيقية تكمن في الاعتراف بالخطأ وفي السعي نحو التصحيح بضمير حيّ وقلب مفتوح، عندها فقط يمكن أن نسير على الطريق الصحيح دون خوف من النقد أو لومة لائم.
في النهاية كلّنا بشر ولسنا معصومين، لكن الفرق بين إنسان وآخر هو القدرة على رؤية نفسه بوضوح والاعتراف بزلاته ومحاولة إصلاحها، فلنتعلّم جميعًا أن ننظر إلى أنفسنا قبل أن نُصدر أحكامنا ولنجعل أفعالنا هي المعيار الحقيقي لكلماتنا، حينها فقط يمكننا أن نقول إننا نسير في الطريق والنهج الصحيح.