علي بن سالم كفيتان
زيارة المقام السامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم القائد الأعلى- حفظه الله ورعاه- لعرين قوات الفرق، تُشكِّل مكرمة سامية من جلالته لمنتسبي هذا التشكيل المُهم من قوات السلطان المسلحة، ولا شك أن مدلولات الزيارة السامية عميقة، وسيكون لها أثرها الكبير في نفوس رجال الفرق البواسل، الذين كانوا- ولا يزالون- يُشكِّلون صمام الأمان في سهول وجبال وبوادي ظفار.
إنَّ تاريخ قوات الفرق يُقدِّم أنصع صفحات الولاء والفداء للوطن وللسلطان، ويُهدي باقة سلام وأمن واستقرار لكل ربوع عُمان، من هذا الركن الحصين في بلادنا الغالية؛ فمن ظفار انبلج فجر النهضة المباركة بقيادة الزعيم الرمز السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وفي أتون الحرب التي كانت تدور رحاها في ظفار، وَثَقَ هذا الرجل العظيم بشعبه، ومنحه الفرصة لقيادة التغيير وقلب الموازين، من خلال ولادة تشكيلٍ جديدٍ عُرِفَ بقوات الفرق الوطنية- في حينه- فهَبَّ من خلاله رجال ظفار لنصرة السلطان والوقوف إلى جانب السلام والتنمية، ونبذ الفرقة والتناحر والشتات؛ فاستجابت ظفار من أقصاها إلى أقصاها لتقول نحن جنودك يا قابوس.
المدلول الاجتماعي للزيارة السامية لمولانا المعظم إلى قيادة قوات الفرق، حاضرٌ بقوة؛ إذ إنَّ لُحمة المجتمع بكل أطيافه حاضرة في تشكيل قوات الفرق اليوم، وهم يحملون الأمانة لحراسة كل شبر من هذا الركن الغالي من عُمان. ستستعيد الأمهات والآباء والمؤسِّسون الصورة بكل تجلياتها؛ صورة البدايات الصعبة، عندما كانت الطائرة العمودية تلوح في الأفق حاملة معها أغلى الرجال وأنقاهم- رحمه الله- في سماء ظفار يتجوَّل بين الرجال، ويشرب معهم الشاي، ويتبادل معهم الحديث في معسكرات الفرق الوطنية.
كان الحديث عاطفيًا صادقًا بامتياز؛ فرغم المخاطرة كان السلطان الراحل- طيب الله ثراه- يحرص على التواجد بينهم في كل الثغور؛ ليمنحهم الدعم والقوة والمنعة في المواجهة الدائرة، وكانوا بعد كل زيارة يزدادون عزمًا وإصرارًا على المضي قُدمًا خلف القيادة الحكيمة، مهما كانت التضحيات.
ولهذا فإن زيارة اليوم جاءت لتكون امتدادًا لإرث الأمس، وبهذا يُقدِّم مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، رسالة عظيمة لأبنائه مُنتسبي قوات الفرق الوطنية لدعمهم وتمكينهم.
إنَّ زيارة عرين قوات الفرق الوطنية في صحلنوت يُعيد إلى الاذهان ملحمة عظيمة بين القائد والشعب، ويؤسِّس لمستقبل جديد لهذا التشكيل المُهم في قوات السلطان المسلحة؛ حيث سيُدوَّن هذا التاريخ بأحرفٍ من نورٍ في صدور الرجال، وسيستلهمون منه أسمى آيات الفداء والعطاء للوطن، فكل الأرياف والبوادي والسهول في ظفار تحتفلُ بهذه الإطلالة المهيبة لجلالة السلطان المعظم؛ لأن الانتماء للفرق هو انتماء لكل شِبر من تراب ظفار، التي رُوي ترابها بدماء الأبطال، ودارت على أرضها واحدةٌ من أطول الثورات في العالم، حسمتها الحكمة البوسعيدية، والثبات على الحق، والتوجُّه للخير والنماء، ومِنْ على أرضها بدأتْ الخطوات الأولى لعُمان الحديثة.
قد يسمح لي القارئ أن استحضرُ زيارة القائد المؤسِّس- عليه رحمة الله- إلى فرقة أبوبكر الصديق في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، عندما هبطت الطائرة وتطاير الغبار في الوقت الذي كان فيه الرجال يطوفون بحزم لاستقبال قائدهم ومُلهِمِهم، وكنتُ اختلسُ النظرات من خيمة المدرسة المنصوبة وسط المعسكر، لأرى الرجل الذي خلَّصنا من الفقر والجهل والمرض، كان قلبي ينبض بتسارعٍ لم يشهده من قبل، ولم يعد للأستاذ أحمد المصري أي سُلطة علينا؛ ففي حضرة قابوس بن سعيد- في ذلك الوقت العصيب- تغيب كل الأحداث، ويبقى وجودُهُ هو الحدث. وعلى غير المُرتَّب له حسب البرتوكول، انطلق القائد إلى خيمتنا، وكأنه كان يسمع دوي قلوبنا شغفًا لرؤيته، سلَّم بصوته الجهوري المسموع، وتوقَّف عند السبورة المُعلَّقة، ونظر إلينا بعينٍ حانيةٍ وقلبٍ رحيمٍ، وتجوَّل بين طاولاتنا منفردًا، وهو يتفحَّص المكان، وبعدها وقف في آخر الخيمة، بينما الأستاذ يشرح درسًا في مادة اللغة العربية، وتداخل معنا- رحمه الله- وبعدها غادر الخيمة إلى المعسكر؛ حيث تَحلَّقَ حوله بضعٌ وسبعون رجلًا، يعرفهم ويعرفونه، وكان حديثه إليهم خالدًا إلى اليوم.
وتحت نفس أشجار الكليت (1) التي جَلَسَ إلى جوارها- رحمه الله- ما يزال أحفاد الرجال الذين قابلوه يرابطون في ذلك السهل الفسيح، يُعاهدون- جيلًا بعد جيل- على عدم التفريط في سلامة عُمان.
حفظ الله بلادي.
- الكليت: شجرة محلية في ظفار.