معركة آخر الشهر

 

 

خالد بن حمد الرواحي

كل شهر تتكرر الحكاية؛ راتب الموظف يتبخر، والتزامات تكبر، وأحلام تنتظر دورها. أوراق فواتير تتكدّس على الطاولة، وأحلام صغيرة تُؤجَّل من جديد.

وحين نقول الموظف فإننا نعني في واقع الأمر رب الأسرة الذي يحمل هموم البيت على كتفيه، ويجتهد ليوازن بين دخله المحدود واحتياجات أسرته المتزايدة.

وهذا الموظف، أو رب الأسرة، يجد نفسه أمام معادلة يعرفها جيدًا: راتب محدود لا يصمد طويلًا، وطموحات تتسع كل يوم. وبين ما يدخل جيبه وما تفرضه الحياة من التزامات، تتسع فجوة القلق ويضيق صدره، لكنه يواصل السير؛ فلا خيار أمامه سوى الصمود.

في التفاصيل اليومية تبدو الصورة أوضح. يضع راتبه أمامه ليقسّمه بين إيجار وفواتير ومصاريف مدارس، وما إن ينتهي من التوزيع حتى يدرك أن ما بقي لا يكفي لشيء آخر.

وفي الصباح يذهب إلى عمله مثقلًا بالحسابات. الراتب ثابت، والالتزامات تتضاعف، والوقت يركض. ومع ذلك، يرسم ابتسامة لطمأنة أسرته، يخفي وراءها قلقًا لا يهدأ. كثيرون يختصرون المعاناة بقولهم: «الراتب لا يكمل الشهر".

الضغوط ليست أرقامًا فقط، بل هموم تتسلل إلى النفس. الموظف يعيش حالة ترقّب لأي طارئ: مرض مفاجئ، التزام مدرسي، أو مصروف غير متوقَّع.

وتشتد الفجوة في مواسم بعينها؛ مع متطلبات رمضان، ونفقات الأعياد، وبداية العام الدراسي حين تتراكم رسوم وكتب وملابس. وكلما كبر الأولاد اتسعت احتياجاتهم من دراسة وعلاج ومواصلات، بينما الدخل يبقى كما هو لا يتحرك.

وتزداد القسوة حين يثقل كاهله قرض بنكي؛ فقسط شهري ثابت يقتطع جزءًا من الراتب، ويضيّق مساحة الخيارات، ويضاعف القلق حتى آخر الشهر.

هذا الضغط لا يظل نفسيًا فحسب، بل قد يمتد إلى الجسد: ضغط الدم، والصداع المزمن، والأرق، وحتى التوتر داخل الأسرة؛ نتائج مباشرة لضغوط مالية لا تهدأ.

وعلى الجانب الاقتصادي، أُقرّت ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% في أبريل 2021 لتنويع مصادر الدخل. ورغم استثناء أكثر من 400 سلعة غذائية أساسية، إلى جانب التعليم والصحة والأدوية؛ فقد شملت الضريبة فواتير الكهرباء والماء والاتصالات، ما ضاعف أثرها على الأسر، خاصة مع رفع الدعم التدريجي عن الكهرباء والوقود.

وتُظهر البيانات أن سلطنة عُمان سجّلت واحدًا من أدنى معدلات التضخم عالميًا؛ لم يتجاوز 1.7% بين 2021 و2023، وتراجع إلى أقل من 1% في 2024. ووفقًا لمسح «نفقات ودخل الأسرة» لعام 2020 (مُغطّيًا الفترة من أكتوبر 2018 إلى أكتوبر 2019)، بلغ متوسط الدخل الشهري للأسرة العُمانية نحو 1173 ريالًا عمانيًا؛ وهو رقم يوضح محدودية الدخل مقارنة بتزايد التزامات المعيشة ومتطلباتها الأساسية.

ورغم أن كلفة السكن وبعض السلع الأساسية أقل نسبيًا مقارنة بدول خليجية أخرى، لا يشعر الموظف دائمًا بهذا الفارق؛ فالتزامات الحياة اليومية تبتلع الدخل سريعًا، فتتسع الفجوة وتشتد على الأسر محدودة الدخل. وهذه ليست بيانات جامدة، بل حكايات بيوت تؤجّل أحلامها وتكتفي بما يتيسر.

ويبقى السؤال الطبيعي: ما الحل؟ الإجابة لا يملكها الموظف وحده. المطلوب جهدٌ مشترك: إدارة فردية رشيدة للنفقات وتخطيط مالي، ومبادرات مؤسسية بحوافز وخيارات دعم مرنة، وسياسات عامة توازن بدقة بين الاستقرار الاقتصادي وحياة الناس اليومية.

إنها مسؤولية جماعية؛ ومعادلة أفضل بين الطموح والراتب كفيلة بحفظ الكرامة وإعادة الطمأنينة للبيوت. ومع ذلك، تظل المعاناة قائمة لأولئك الذين توقّف دخلهم كليًا؛ المسرّحين عن العمل. ورغم استفادتهم من منفعة مؤقتة تعادل 60% من آخر أجر لستة أشهر، فإنَّ مصروفاتهم لا تتوقف، بينما مصدر رزقهم الأساسي قد انقطع، فتتحول «معركة آخر الشهر» لديهم إلى صراع يومي لتأمين أبسط مقومات الحياة.

ورغم قسوة الطريق، يبقى الأمل ممكنًا. فالحياة ليست أرقامًا وجداول إنفاق فقط، بل عزيمة تتخطى الصعاب؛ وما يضيع في صخب الفواتير يمكن أن يعود في هدوء الرضا. والسؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل نصل يومًا إلى معادلة تُنصف الجميع؟

الأكثر قراءة