صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد
من أسوأ ما يمكن أن يرتكبه المرء من تهور في حق نفسه هو الهروب من الوطن من أجل التمرُّد على الوضع العام والإضرار بالنظام والنيل من رأس الدولة ورموزها بالكلمة والصورة، والتحريض على الكراهية والبغضاء وبث روح الشقاق وإثارة الفتن بين أفراد المجتمع والدعوة إلى الفوضى والعصيان.
ومن يفعل ذلك وكأنَّه يشعل النيران في جسده، أو كمن يُلقي بنفسه في بئر عميقة مُظلمة؛ ليظل يسقط فيه أكثر وأكثر حتى الارتطام بالقاع السحيق. والهروب من الوطن يعني الانقلاع من الجذور والأرض والبيت والتخلي عن الأهل والأصدقاء وكل غالٍ وعزيزٍ. وسينصدم هذا الهارب فيما بعد، حين يصل الى الغربة بأنَّ حياته ليست على ما يُرام وهي ثقيلة جدًا جاثمة على صدره وكأنه يتحمَّل وزر ذنوب الدنيا بأسرها بانتظار القصاص. وأحواله بهجرته لم تتحسن كما كان يعتقد؛ بل ازدادت سوءًا على سوء؛ فاقدًا السيطرة على حل مآزقه بمشاكل تُحيط به من كل صوب لم تخطر على ذهنه ولم يحسب لها حساباً، ومنها أعراض مرضية من جراء العُزلة والانفصال والفقد الاجتماعي وعدم القدرة على الاندماج والتأقلم بالخارج، كما كان في حياته الطبيعية السابقة بين أرضه وأهله وناسه.
وأحوال الطقس السيئة غير المعتادة التي وحدها كافية لتصيبه بالاكتئاب، وما يواجهه من فراغ نفسي كبير لا يعرف كيف يتعامل معه أو يتخلص منه، وصعوبات توفير العيش الكريم وغيرها من المتاعب الحياتية التي تظل تلاحقه وترهقه بدنيًا ونفسيًا، ومنها التي تجعله يتلفت يمينًا وشمالًا خائفًا مرتابًا من احداث مفاجِئة قد تقتفي أثره وتصيبه ببلايا صادمة حيث يكون.
وأسئلة تبقى كسيف مُسلَّط على رقبته تقوده الى الاضطراب النفسي الدائم والاختلال المعنوي؛ وهي: إلى متى هذه الغربة الذي اوقع نفسه فيها تهورًا؟ وأليس من الأفضل لو بقي في البلاد كحال بقية المواطنين- له ما لهم وعليه ما عليهم- بحياة عادية طبيعية؟ والسؤال الآخر المؤرق الذي يطغى علية نكدًا وتكديرًا، وماذا بعد...؟ فلا هو شفى غليله وانزاح همَّه ولا هو استراح؛ بل زاد قهره وبؤسه وتراكم قبحه المنتشر وتمادت رذائله بالإعابة المدانة، ضائعًا في متاهة لا مخرج منها يكاد ينهشه الندم.
أما الخير، فكل الخير يبقى في الوطن، وإذا تعسَّرت الأحوال أحيانًا للبعض، وثقل المسير، فبشِّر الصابرين؛ نظرة إلى ميسرة وفرج قريب.
وإنما لا عذر ولا ذريعة لمن يتخلى عن وطنه متجنيًا على مصوناتها.
وقديما قالوا: "بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة // وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرام".
والوطن يبقى منبت الأجداد والآباء، ومهد الطفولة، ومستودع الذكريات، وملاذ الأبناء والأحفاد، ومصدر الأمن والأمان، وهو المكان الوحيد الذي يستشعر فيه الإنسان عزته وكرامته وحريته؛ فالأرض أرضك والأهل أهلك والديار ديارك.
وإذا كان من لديه شيء ليقوله فليقُله في وطنه، ومن كان لديه شيء يُدافع عنه فليأتي ببرهانه. ولا إنكار بأن هناك من تعرضوا للظلم على يد موظف أو مؤسسة؛ فهذا وارد في وطن شاسع الأرجاء متشعب المهام والاختصاصات. ومن كان على حق فليطالب بحقه وسينال مُبتغاه، "فما ضاع حق وراءه مُطالِب".
لكن إذا وقع أحدهم في خسائر مالية بسبب تجارة فلا يلُم إلّا نفسه، وليتحمل الفشل وتوابعه؛ لأنه مُدرك منذ البداية احتمالات الدخول في التجارة، فإما ربح وإما خسارة. والدائن يطالب المدين بحقه في المحاكم بالقانون، وتبقى مجرد قضية شخصية خاصة بين طرفين، والتسليم بما تؤول إليه الأمور في القضاء إنصافا وعدالة، إذا تعذر الصلح والتوفيق، ولعل يأتي اليوم الذي يفرج عنه فرجًا جميلًا بعد حين في يوم عيد.
والأولى أن لا يُقحم المرء نفسه في ديون من المحتمل أن لا يستطيع سدادها ثم يصرخ تعالوا اسعفوني!
أما إذا اختار الهروب خارج البلاد كهروب الجبناء، فقد يحصل على اللجوء أو لا يحصل عليه، بعد سنوات طويلة من العيشة المشرَّدة تطفُّلًا على بلد الآخرين، والإقامة في غرفة ضيقة تنعدم فيها وسائل الراحة والاقتيات على فتات من المعونة الشهرية الذليلة من بلد خارجي غريب ليس ببلده. ويُصبح مُستنكَرًا مكروهًا مرفوضًا بما يصدر عنه ضد بلده وحكومته وحاكمه من افتراءات حاقدة. وأي سب أو قدح أو انتقاد لاذع مُغرِض لا تأثير له على الدولة والقائمين عليها ومن في حكمهم؛ بل تدنيس لكرامته هو لا غيره، والتي يلطخها بمزابل القاذورات العفنة وممارسته الخيانة العلنية على بلده. وقد يتلقفه بعض الحاقدين المغرضين ليقع في فخ محاولة الإضرار بدولته أكثر ولا يضر بذلك إلّا نفسه أكثر وأكثر.
والدولة بقيادتها وشعبها وحدودها ونظام حكمها وحماتها كيان راسخ عبر السنين لا تهزه شرذمة من الأقزام الهاربة من البلاد تتطاول على الحكم وحكامها، بعد أن ظنت أن لا أحد يستطيع الوصول إليها متوارية.
والحقيقة أن الدولة غير مكترثة بهؤلاء الهاربين العابثين الضالين السبيل، ولا تشكل هذه الشرذمة أهمية لأحد. وهُم كمَنْ ينفخ في قربة مقطوعة "وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" (البقرة: 15).
نسأل الله لهم الهداية ولنفوسهم البائسة القلقة السكون وأن يرزقهم الله في "منفاهم الدائم" التأدب والهدوء إلى أن يسترد الله وديعته.