خالد بن حمد الرواحي
فجأةً، بعد سنواتٍ طويلةٍ من العطاء والترقيات المتتابعة، وجد الموظف في القطاع العام نفسه أمام منعطفٍ قانوني مع صدور قانون الحماية الاجتماعية. وبينما كان يأمل أن تعكس ترقياته المتأخرة جهوده في معاشه التقاعدي، جاءت المادة (74) لتُحدّد الأجر الخاضع للاشتراك كما هو في 31 ديسمبر 2023، وكأنها تُجمّد الزمن عند تلك اللحظة. وبذلك وُضع الموظف بين معادلتين متعارضتين: منطق المشرّع الساعي إلى حماية الاستدامة المالية، ومنطق الفرد الذي يتطلع إلى عدالةٍ تُوازي جهد سنوات خدمته.
تخيّل موظفًا أفنى أكثر من نصف عمره في خدمة مؤسسته؛ يدخل مكتبه مع بزوغ الشمس ويغادره مع غروبها، متنقّلًا بين المشاريع والتحديات، صاعدًا درجات السلم الوظيفي بصبرٍ طويل. ومن راتبه يُقتطع كل شهر اشتراكٌ لصندوق التقاعد، على أمل أن ينعم يومًا ما بمعاشٍ كريمٍ يوازي سنوات الجهد والتفاني. غير أنّ هذا الأمل اصطدم بواقعٍ جديد مع تطبيق القانون؛ إذ وجد كثيرٌ من الموظفين أنّ معاشهم التقاعدي قد جُمِّد عند الدرجة المالية التي كانوا يشغلونها في 31 ديسمبر 2023.
ولعل المثال الأوضح لذلك موظفٌ في منتصف الأربعينات أنهى 22 سنة خدمة مع نهاية 2023، ثم نال بعد عامين ترقية رفعت راتبه الأساسي بما لا يقل عن 200 ريال. ومع كل شهر، تُقتطع من راتبه الجديد اشتراكاتٌ أكبر لصندوق التقاعد، لكنه حين يصل إلى لحظة التقاعد يكتشف بمرارة أنّ معاشه ما زال يُحتسب وفق راتبه القديم لا وفق راتبه المُحدَّث. بل إن الأمر قد يبدو أكثر قسوة حين يحصل على أكثر من ترقية لاحقة، فينتقل إلى درجات مالية أعلى بجهده وخبرته، غير أنّ معاشه عند التقاعد يُعاد احتسابه على أساس الدرجة التي كان يشغلها قبل 31 ديسمبر 2023، وكأن ترقياته اللاحقة لم تكن.
وقد ازدوجت المادة (74) في استخدام مصطلحين جوهريين شكّلا أساسًا لهذا الجدل؛ أولهما «الراتب الأخير» كما ورد في البند (17) من التعريفات، والذي يعني بالنسبة لموظفي القطاع العام الراتب الذي يتقاضاه الموظف في 31 ديسمبر 2023، بينما يُحتسب للعاملين في القطاع الخاص على أساس متوسط الأجور خلال السنوات الخمس الأخيرة قبل التقاعد. أمّا المصطلح الثاني فهو «الضمان النقدي للمعاش» كما عرّفه البند (29)، وهو مبلغ نقدي يُحتسب عند تطبيق القانون ويُعدّ الحد الأدنى المضمون للمعاش، دون إعادة تقييمه مستقبلًا. وبذلك، أصبح «الراتب الأخير» هو الأساس الذي يُبنى عليه هذا الضمان، ما جعل الترقية بعد 31 ديسمبر 2023 بلا أثرٍ ملموس في معاش شريحة واسعة من موظفي القطاع العام.
ويُفسَّر هذا الوضع أيضًا بنص المادة (73) من القانون، التي جعلت المعاش مكوَّنًا من جزأين: بنسبة 2% من آخر راتب قبل 2024 مضروبًا في سنوات الخدمة السابقة، وبنسبة 2% من متوسط الأجور اللاحقة مضروبًا في سنوات الخدمة التالية. ورغم محاولة المشرّع مراعاة ما بعد تطبيق القانون، فإن أثر الجزء الثاني يبقى محدودًا، لتظل الغلبة في النهاية للراتب القديم، وكأن الموظف يدفع اشتراكاته على راتبٍ جديد بينما يُحتسب معاشه على راتبٍ مضى.
وهكذا يجد نفسه في معادلةٍ غير متوازنة: يدفع أكثر… لكنه لا ينال ما يستحق. فيتساءل بمرارة: كيف تُحتسب التزامات الحاضر كاملة، بينما تُقيَّد حقوقه المستقبلية بماضٍ طُوي؟
هذا الشعور بالغبن لا يثقل كاهل الموظف وحده؛ بل يمتد أثره إلى أسرته بأكملها. فكيف تُدار أقساط المنزل، ونفقات الأسرة، ومتطلبات الحياة اليومية في زمنٍ تتسارع فيه كلفة المعيشة؟ وكيف له أن يشعر بالإنصاف وهو يرى زملاءه الذين التحقوا بالنظام بعد 2024 تُحتسب معاشاتهم على أساس رواتبهم الفعلية حتى يوم التقاعد؟
صحيح أن «الضمان النقدي للمعاش» وُضع أساسًا ليكون حدًّا أدنى يطمئن الموظف إلى أنه لن يحصل على أقلّ منه، غير أنّه في نظر كثيرين تحوّل إلى سقفٍ يقيّد الطموحات. إذ أبقى الموظف أسيرًا لدرجةٍ ماليةٍ مضت، بدل أن يكون قاعدةً ينطلق منها نحو مستقبلٍ أفضل. وهنا يتجلى التباين بين الهدف المعلن للنص القانوني وأثره الملموس في حياة الناس.
إن الحفاظ على استدامة صناديق التقاعد هدفٌ مشروع لضمان حقوق الأجيال القادمة، غير أنّ هذا الهدف لا ينبغي أن يتحقق على حساب العدالة. فبينما يركّز المشرّع على التوازن المالي وحماية النظام من العجز، ينشغل الموظف بثمرة جهده اليومي وترقياته المستحقة. ومن هنا، تصبح المراجعة الجزئية للنص خطوة ضرورية لردم الفجوة بين الحسابات المالية ومتطلبات العدالة الاجتماعية.
وتبرز في هذا السياق آلياتٌ وسطية يمكن أن تعزّز ما ورد في المادة (73) وتجعله أكثر إنصافًا في التطبيق؛ من بينها ربط جزءٍ من الترقيات اللاحقة بدرجة الموظف المالية عند التقاعد بحيث ينعكس أثرها في المعاش النهائي، أو اعتماد مراجعةٍ دورية لخط الأساس كل بضع سنوات، أو تقوية معامل الاحتساب الخاص بسنوات الخدمة التي تلت 1 يناير 2024، وذلك من دون الإخلال بمتطلبات الاستدامة المالية.
بهذا وحده تكتمل المعادلة العادلة: نظام مالي مستدام يطمئن الأجيال القادمة، وموظف مكرَّم يحصد ثمار جهده، وأُسرة مطمئنة لمستقبلها. فقانونٌ يحتضن سنوات الخدمة جميعها، ولا يوقفها عند يومٍ واحد، هو الكفيل بترسيخ الطمأنينة وتعزيز الثقة بين المواطن والنظام الوطني للحماية الاجتماعية.