الإشعاعات النووية: وميض أمل أم ظلال خطر؟! (3)

إيران والغرب.. صراع العِلم والتقنية

 

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

لماذا تُصِر إيران على الوصول إلى نسب تخصيب مرتفعة من اليورانيوم، رغم إعلانها الدائم عن رغبتها في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية؟ السؤال يحمل في طياته أكثر من مجرد وجهة نظر سياسية أو أمنية؛ فهو يكشف عمق الطموحات العلمية والتقنية التي تسعى إيران لتحقيقها، في سعيها لأن تصبح لاعبًا رئيسيًا في مجال الطاقة النووية.

الأمر يبدأ من الحاجة المُلحَّة لليورانيوم عالي التخصيب في المفاعلات البحثية؛ حيث تُنتَج النظائر المُشِعَّة التي تُستخدم في طيف واسع من التطبيقات الحيوية؛ فالنظائر المُشِعَّة ليست مجرد أدوات تشخيصية؛ بل أدوات علاجية مُتقدمة، خصوصًا في مقاومة أمراض السرطان التي ما تزال تشكل واحدًا من أكبر تحديات الطب الحديث؛ حيث إن هذه النظائر تسمح بتوجيه علاجات دقيقة تستهدف الخلايا السرطانية دون الإضرار بالأنسجة السليمة.

أما في المجال الزراعي، فتُستخدم النظائر المُشِعَّة لمكافحة الآفات بشكل فعَّال، دون اللجوء إلى المُبيدات الكيميائية التي تُلحق أضرارًا بالبيئة والصحة. ولا يتوقف الأمر عند هذه التطبيقات؛ بل تمتد إلى علوم الكيمياء والبيولوجيا وعلوم المواد؛ حيث تُساعِد مُفاعِلات البحث على تعريض المواد لظروف إشعاعية قاسية، بهدف دراسة تأثيرات الإشعاع عليها، وهو أمر حاسم لتطوير مواد جديدة تتحمل البيئات القاسية، مثل مفاعلات الطاقة النووية القادمة أو حتى في مجالات أخرى تتطلب مقاومة عالية للإشعاع.

إضافة إلى ذلك، هناك جانب استراتيجي لا يقل أهمية، وهو استخدام الطاقة النووية في الغواصات وحاملات الطائرات؛ فالطاقة النووية تمنح الغواصات قدرة فريدة على البقاء مغمورة لفترات طويلة دون الحاجة للتزوُّد بالوقود؛ ما يجعلها أداة قوة استراتيجية لا تُضاهى في الحروب البحرية، وكذلك، تُوَفِّر الطاقة النووية لحاملات الطائرات قُدرة هائلة على توليد الكهرباء لتشغيل أنظمتها المُعقَّدة؛ بما في ذلك أنظمة إطلاق الطائرات؛ مما يمنحها تفوقًا تكتيكيًا كبيرًا. والولايات المتحدة- على سبيل المثال- تعتمد على حاملات طائرات تعمل بمفاعلات نووية.

العالم الغربي، ومن ضمنه الولايات المتحدة، يعرف تمامًا أن السيطرة على المعرفة العلمية هي سِرّ تفوقه العسكري والتقني، ولذلك، يفرض قيودًا صارمة على مثل هذه الأمور، ليست فقط لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي؛ بل أيضًا لمنعها من تطوير قدراتها العلمية والتقنية الذاتية. وإيران، رغم هذه الحواجز، استطاعت أن تُحقِّق قفزات نوعية في مجال البحث العلمي، حتى وصلت إلى نقطة لم يعد بإمكانها التقدم أكثر إلّا عبر بناء بنى تحتية بحثية متقدمة، ومنها مفاعل نووي عالي التخصيب.

هنا يكمُن جوهر الصراع الحقيقي: ليست مسألة امتلاك إيران للسلاح النووي فقط؛ بل التحدي الأكبر هو طموحها العلمي والتقني الذي لا يكلّ، والذي يُهدد احتكار الغرب للمعرفة والتكنولوجيا المتقدمة، فبينما يسمح الغرب لإيران بنقل تقنيات محدودة، فإنه يضع خطوطًا حمراء صارمة أمام تطوير قدرات ذاتية تمكنها من مجاراة أو حتى منافسة التقدم العلمي الغربي.

هذا الصراع يعكس فَهْم إيران العميق بأن التقدم العلمي هو العمود الفقري لأي نهضة حقيقية، وأن الاعتماد على نقل التكنولوجيا فقط لن يحقق طموحاتها، وإيران تريد أن تبني نفسها كقوة علمية حقيقية، قادرة على الابتكار والبحث المستقل.

إنَّ إصرار إيران على المضي قدمًا في تخصيب اليورانيوم بنسب عالية، تعبيرٌ صريحٌ عن رغبتها في التحرُّر من قيود الغرب العلمية والتقنية، وهو سعي لجعل نفسها لاعبًا فاعلًا في الساحة الدولية، ليست فقط كمستهلك للتقنية؛ بل كمُنتِج ومُبتكِر، وهذا الطموح العلمي يُثير قلق الغرب، لكنه أيضًا يُشكِّل شهادة على تصميم إيران على تجاوز كل العقبات في سبيل بناء مستقبلها العلمي والتقني؛ لأن النفوس الكبيرة لا تكفيها مجرد رغبات؛ بل تحتاج إلى أفعال تبني أسسها وتشق طريقها وسط التحديات.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الأكثر قراءة