د. أحمد بن موسى البلوشي
أصبحت كلمة "ترند" جزءًا أساسيًا من مُفردات العصر الرقمي، فهي تعبر عن الاتجاهات أو المواضيع الرائجة التي تنتشر بسرعة واسعة على الإنترنت، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. وعلى الرغم من أن الترندات تبدو في ظاهرها سطحية أو مؤقتة، إلا أنها تعكس تحولات أعمق في الثقافة، والرأي العام، والسلوك المجتمعي.
ويُعدّ الترند نتيجة تفاعل مُعقد بين العقل الجمعي للمجتمع، وتكنولوجيا المنصات الرقمية، والظروف الاجتماعية والسياسية، فهو ليس مجرد "ضجة" مؤقتة، بل مرآة آنية تعكس أولويات المجتمع واهتماماته وحتى صراعاته، والتفسير المنطقي لهذه الظاهرة يقوم على فهم الترند بوصفه ظاهرة اجتماعية ونفسية وتقنية في آنٍ واحد، حيث لا يظهر الترند بشكل عشوائي، بل ينشأ نتيجة تفاعل ديناميكي بين ما يحدث على أرض الواقع، وما يشغل الناس من قضايا وهموم، وطريقة استجابتهم وتفاعلهم مع هذه القضايا عبر الوسائط الرقمية المختلفة.
تشمل الترندات الرقمية محتويات مرئية رائجة، وتحديات شبابية، وقضايا تثير الجدل العام، إضافة إلى عبارات أو مقاطع قصيرة تنتشر بسرعة لعدة أيام عبر منصات التواصل الاجتماعي. وغالبًا ما تكون هذه الترندات مرتبطة بشخصيات معروفة، أو أحداث محلية وعالمية لافتة، أو مواقف طريفة وساخرة تحظى بتفاعل واسع. إلّا أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الترفيه، بل تعكس في كثير من الأحيان قضايا أعمق تهم المجتمع وترتبط به. وتزداد وتيرة تفاعل المجتمع مع هذه القضايا عندما تقع أحداث مفصلية سواء داخل المجتمع أو خارجه. ومن الملفت أن فئة الشباب، باتت تؤدي دورًا بارزًا في توجيه هذه الترندات، من خلال إنتاج محتوى يتميز بالجرأة والوعي الاجتماعي، ويعبّر عن قضاياهم وتطلعاتهم بأسلوب يعكس روح العصر وثقافة المشاركة.
تأثير الترندات على المجتمع أصبح ملموسًا وعميقًا، خاصة في ظل الانتشار الواسع لمنصات التواصل الاجتماعي واعتماد فئات المجتمع، لا سيما الشباب منهم، على هذه الوسائط كمصادر أساسية للمعلومة والتوجه والرأي. ففي جانبها الإيجابي، توفر الترندات وسيلة فعّالة للتعبير والمشاركة، وتلعب دورًا مهمًا في تسليط الضوء على قضايا مجتمعية مهمة.
ومع ذلك، فإن هذه الترندات لا تخلو من أخطار ومشاكل، خاصة عندما تكون مبنية على معلومات غير دقيقة، أو توجهات سطحية، أو محتوى مثير فقط لجذب التفاعل، في هذه الحالات، يمكن أن تروج الترندات لمفاهيم مشوشة أو مغلوطة، وتؤثر على وعي المجتمع بطريقة سلبية، حيث تصبح القضايا الجادة مجرد "موضة رقمية" سرعان ما تُنسى دون أثر حقيقي.
ويُعد التأثير الأكبر للترندات واضحًا على فئة الشباب، الذين يتأثرون بسرعة بمحتوى المؤثرين والشخصيات الرقمية، ما قد يؤدي إلى تبني سلوكيات أو قناعات لا تتماشى بالضرورة مع قيم المجتمع أو مع السياق الثقافي المحلي. كما إن سرعة التغيير في الترندات يمكن أن تخلق نوعًا من الضغوط النفسية والاجتماعية، خاصة بين المراهقين، الذين يسعون دائمًا لمواكبة ما هو رائج خوفًا من التهميش أو "الخروج عن السرب".
وعلى المستوى المجتمعي الأوسع، قد تُحدث الترندات فجوة واضحة بين الأجيال؛ فبينما يرى الجيل الأكبر سنًا أن بعض الترندات تافهة أو غير مفهومة ولا تتناسب مع قيمهم ومعتقداتهم، يعتبرها الشباب وسيلة للتواصل والتعبير. هذه الفجوة قد تؤدي إلى سوء فهم أو ضعف في الحوار بين الأجيال، مما يعزز الشعور بالانعزال والانقسام الثقافي داخل الأسرة والمجتمع.
التعامل مع الترندات في عصر الانفجار الرقمي لم يعد خيارًا هامشيًا؛ بل أصبح ضرورة ثقافية وتربوية ملحة، خصوصًا مع تسارع المحتوى وانتشاره بشكل غير مسبوق. وهذا يفرض على الأفراد، لا سيما فئة الشباب، امتلاك أدوات الوعي والتفكير النقدي التي تمكّنهم من التفاعل الذكي والمسؤول مع هذه الظاهرة. فليس كل ما ينتشر يستحق المتابعة أو التفاعل؛ إذ قد يُضخَّم الترند لأسباب تجارية أو دعائية أو نتيجة سلوك جماعي غير مدروس. لذلك، لا بُد من التوقف عند كل محتوى رائج وطرح تساؤلات جوهرية: ما الهدف من هذا الترند؟ ما الرسائل التي يُراد إيصالها؟ وهل تنسجم مع السلوك، والقيم، والمبادئ الشخصية ،والمجتمعية؟
إن امتلاك هذا النوع من التفكير يساهم في تحصين الأفراد من الانسياق الأعمى، ويمنحهم القدرة على اتخاذ مواقف مستقلة وواعية. ومن جهة أخرى، فإن الترندات لا يجب أن تكون وسيلة للهروب أو التسلية فقط، بل يمكن استثمارها في دعم التعليم، وتعزيز الوعي، وخدمة قضايا مجتمعية مهمة، شريطة التحقق من صحة المعلومات المتداولة وتجنّب الوقوع في فخ الأخبار المضللة، خاصة في الترندات ذات الطابع السياسي أو الإنساني أو الصحي. فالتثبت من المصدر والرجوع إلى الجهات الموثوقة خطوات أساسية لحماية الفرد والمجتمع من التضليل الرقمي. والأهم من ذلك، أن صناعة الترند لم تعد حكرًا على وسائل الإعلام أو المشاهير؛ بل أصبحت فرصة لكل فرد لإحداث أثر إيجابي، عبر الإبداع في طرح الأفكار وتسليط الضوء على المبادرات البنّاءة والقيم التربوية بأساليب مؤثرة وجاذبة. فالمحتوى في حد ذاته قوة، وحسن توجيهه يمثل مسؤولية أخلاقية وثقافية يمكن أن تصنع فرقًا حقيقيًا في الوعي المجتمعي.
وأخيرا نقول إن الترندات التي نراها اليوم لم تعد مجرد "موضة عابرة" تُستهلك بسرعة وتُنسى، بل أصبحت تمثل مؤشرات دقيقة على ما يشغل عقول الناس، وما يثير اهتمامهم، وما يعبر عن قيمهم وتوجهاتهم في لحظات معينة. إنها أشبه بعدسة مكبرة تُظهر نبض المجتمع، سواء من خلال ما يُضحكنا، أو يُغضبنا، أو يدفعنا للتعاطف أو التضامن؛ فالترند قد ينشأ من موقف فردي بسيط، لكنه يتحول إلى حراك رقمي واسع يكشف عن تطلعات أو مخاوف جماعية.
وهنا تظهر مسؤوليتنا كمواطنين ومستخدمين وفاعلين في الفضاء الرقمي: لا يكفي أن نتابع أو نعيد نشر الترندات فقط بدافع الترفيه أو التسلية؛ بل ينبغي أن نتعامل معها بوعي نقدي وقدرة على التمييز بين ما هو سطحي عابر، وما هو عميق يستحق التفاعل الجاد. المشاركة الفعالة تعني استخدام الترند كمنصة لتوصيل صوت، أو إيصال رسالة، أو دعم قضية نبيلة، أو تحفيز حوار مجتمعي بنّاء؛ فبدلًا من أن تكون الترندات أداة للتشتيت أو الاستهلاك السريع، والسخرية، يمكن أن تصبح وسيلة للتأثير الإيجابي وصناعة الوعي.