قصة حُلم مُعطّل (6)

 حمد الناصري

       سعيد شاب أنيق، ويبدو ذلك من ملامحه وسلوكه وأدبهُ الجميل. ولكنه كان واضحًا بأنه في حاجة ماسّة إلى عمل أو باب رزق يجمع به المال ليسدّ به رمقه، ويساعد به أهله في البلد.. ولم تكن الشهوة أو المُتعة الجسدية تخطر على باله.. سعيد شاب يافع وجد نفسه - بلا مُقدمات - يقع في غرام إحدى الفتيات الثلاثة اللواتي استوقفهن الرجل الوسيم.. وعرّ ف اسمه بعد ذلك بـ ميلاد إبراهيم والذي يبدو أنه يعرفهنّ أو هنّ عرفنهُ من شَبهٍ في ملامحه، وبدت بينهم تفاهمات على أثرها كان ذلك التقارب الذي جعله يدلّهن عليه، لكونه صديق له؛ 
   تعرّف سعيد على ميلاد ابراهيم، منذ بضع أيام، كان يبحث عن عمل وطمأنه بأنه يسعى لإيجاد عمل مناسب له.. وخطرت على بال ميلاد إبراهيم فكرة خاطفة، وتراءت أمامه فرصة لقاء سعيد بإحدى الفتيات اللواتي يبحثن عن المال والحرية.؛
 لم يكن سعيد ليعلم بأنّ الصدفة سوف تُحمّله الكثير، إذ قال في نفسه: لا أبحث عن الثراء ولكن أبحث عن حياة طيبة وعمل شريف يسرّ خاطر أهلي.

    قال سعيد الحوز عن نفسه: طموحي هو أن أحصل على عمل، ومُيولي هو أن أجد توفيقاً.. لن أفرّط في أي فرصة تدر عليّ مالاً وكسباً ورزقاً.. سأبذل جهداً أكبر في البحث، حتى لو كان العمل مؤقّت وفيه مكسب.. ما يهمّني؛ هو أن أضع نصب عيني قناعة، لا تفريط ولا إفراط في آن واحد، والاعتدال في الحياة واجب. كما قال أبي رحمة الله عليه.. ولكن من الصعب تحقيق الاعتدال في هذه المدينة الصاخبة، ومن الأصعب أن أبقى بدون عمل، لقد أوشكَ مصروفي على الانتهاء، ولا أعلم كيف أتصرّف.. يجب أن أقبل بأي عمل مهما يكن..
      لمح سعيد الشاب الأشقر المُشرّب بحمرة وأبصرهُ عن يقين، ومشى ناحيته، على مقربة منه، بعث بتحية رافعًا يده إلى أعلى.. ثم أتبعها برفع صوته، أهلاً بك صديقي ميلاد إبراهيم، كيف حالك، فردّ الشاب الأشقر، مرحبًا بك صديقي سعيد.. قَرّب من هون. وبدا على سعيد شيء من الحياء.. فأشار إليه ذلك الشاب، أن يقترب.. بنبرة فيها ابتسامة، اختلطت بابتسامة ارتسمت على وجوه الفتيات، فسار إليه سعيد وهو ينظر بعينيه إلى الفتيات بعد حصوله على جرعة ترحيب، وتناولا حديثاً قصيرًا مُختصراً، نعم.. تفضّل، أخدمك في شيء؟ لا.. فقط بغيت أسألك عن موضوع العمل؟ فرصة العمل مهمة لي؟ فرد صديقه ميلاد ابراهيم، قائلا: أنا جئت مع الفتيات الثلاث، هنّ اللواتي قلت لك، أنهنّ من طينتي، بل هنّ قريباتي ـ أيضاً ـ فحين قلت لك هنّ من طينتي، يعني أنهن امتداد لقرابة الموطن والدم.؛ وعلى عُجالة أردف ميلاد إبراهيم: نتحدّث في وقت لاحق.. هزّ سعيد رأسه وبقي صامتاً.. قالت كاترينا: ارفع نظرك قليلاً لا تستحي.. إنّا في خدمتك؛ فرد سعيد، أنا باحث عن عمل؟ وقبل أن ترد كاترينا قالت الفتاة الحسناء؛ سَحر، وكأنّها لم تسمع ما قاله لـ كاترينا.. أو كأنّها صُدمت بالشاب الجميل، وأخذنَ يُحدثن أنفسهن، ويركّزن على عين سعيد الحوز وقامته وجسده، ولكل واحدة منهنّ تفضيل ما يركّزن عليه.. بينما سعيد كانت افضلية تركيزه على الفم سرّ عظمة المرأة، وما برز من مفاتنها عامل يدفعه إلى مُتقلّب لا يُدركه، على الرغم من محاولات لتثبيت الشعور على قناعة محسوسة لا تقلّب فيها، فكلّما نظر في واحدة منهنّ، بدت المشاعر الحسّية تُفضّل الأخرى، أو كأنما انقلاباً حسّياً في ذات الحُلم، يصدر عن قناعة حسّية مُعطّلة لا شعورية.. حدّثت سَحر نفسها: إنّه شاب ذو صِفات حسنة الجمال، يتمتّع بجاذبية، ذي حسّ مرهف، صفات رائعة يستحقّها، صفات من الرجولة النقية.. بينما خولة القصيرة، كانت نظرتها إلى سعيد الحوز، نظرة رائعة.. تمنّت لو يطمئنها بغمزة او إشارة  .. ليتك تنظر إلى روحي، فتُخبرني عنك أكثر وأكثر.؛ وكما يبدو، شاباً نشيطاً، ذو جدّيته مختلفة عن غيرك.. بينما الطويلة كاترينا بجسدها النحيف وعينيها الصغيرتين ظلّت تتأمّل سعيد الحوز فبادلها النظرات الحسّية في صمت يتجاذب بينهما، هزّ رأسه هزّة لا يفهمها غيرها، هدوء عجيب خيّم على كل شيء.. التقت أفكارهما عالياً، شقّ الصمت علاقة تكوّنت بفضاءاتها، شُعور مُطمئن وراحة نفسية وثّقت بداية علاقة تتجاذب بينهما.
 شُعور غريب تملّك سعيد الحوز، كما لو أن تجربة عالية الإحساس، صادقة، لغة المشاعر تتصدّر لحظات حسّية مُتبادلة وتكشف عن غُموض يجب أن يخوض تجربتها، كل واحد منهما، ويُولد الإحساس، الذي يُعزز التقارب بشعور الحُب الإيجابي.. استرجع سعيد الحوز حُلمًا بعيدًا مشوبًا بالقلق، حُلم مُحزن، حُلم قاتل مُعطّل.. قالت كاترينا وكأنها رفعت ما حجب عنها من حياء.. بماذا أستطيع أن أخدمك؟ لا زلت لم تعمل.؟ وقبل أن يتبادل معها الكلمات أو يُخبرها أو يردّ عليها ويُجيب على تساؤلها، وكي لا تكشف كاترينا سرّها لـ سعيد، قال الشاب الأشقر ميلاد ابراهيم: أنا لم أخبرك من قبل، أنا موظف هنا بفندق البستان، وسائق بالأجرة بسيارتي الخاصة، أتواجد هنا دائمًا، اتفق مع مجموعة السائحين الراغبين في زيارة بعض الأمكنة التراثية وبعض العيون والأفلاج والأسواق الشعبية.. وكأنّ كاترينا تتحدّى ميلاد إبراهيم، التفتت إلى سعيد الحوز، وأنت ما اسمك؟ عقّب ميلاد إبراهيم اسمه سعيد الحوز، فردّ الشاب الجميل، اسمي بالكامل سعيد بن يوسف الحوز، عقّب ميلاد إبراهيم بغيرة: وأنا اسمي بالكامل إبراهيم ميلاد الخوري ترجع أصولي إلى بلادكم، الساحل الطويل المشهورة بخورها وملوحتها.. أمّي شامية، تركها أبي وتملّص منها وراغ عن ورطته وتخلّص وفلت بلا رقيب ولا حسيب، بُلدانكم تقرّ بقوانين صارمة ولكنّها تعجز عن تنفيذها، أنظمة تتغيّر على أو وفق تشريعات غير نابعة عن قيمكم ومبادئكم، ولا تمسّكم لا من قريب ولا من بعيد، وإنْ شئت فاقرأ كتابكم، هو خير ما تجمعون من قوانين.. ومنذ أن كنت رضيعاً في كنف أمّي ولا أعلم عن شرعية أبي فسمّتني أمّي باسم أبيها إبراهيم الخوري.
    وإن شئت أن تسألني عن شيء يهمّك، فسأخبرك بالحقيقة الناصعة السواد، فأنا لا أشعر بانتمائي إلى بلد الخيران والرطوبة المقزّزة، بلاد أبي المجهول لم تعد تهمّني.. وذلك ما أشعر به وما أقوله هو انتمائي وحقيقتي.
   وبما أنّك عرفتني جيداً، فسأضيف لك شيئاً أهم من ذلك كله، أنا أعمل هنا، في تحضير الطلبات الخاصة وإتيكيت الحفلات والسهرات الكبيرة.. وتلك الفتيات من طينتي ولسْنَ قريباتي كما ذكرت لك، وتجمعني بهن مُتطلبات العَمل، ولدينا ما يُمكننا جميعًا أن نعمل سوياً؛ مِن مُنطلق فِيد واستفيد.
    بدا على سعيد حالة من الغضب، عانى خلالها صُعوبة في كتمان تأثيرهُ على علاقته بميلاد إبراهيم والذي كان قريبًا منه قبل أنْ تكون بصحبته الفتيات اللاتي قال عنهن لسنَ قريباته؛ قال في نفسه: ربما هكذا أسلوبه، عُدواني وعنيف.. وكذّاب ومُراوغ وأنا لم اكتشفه من قبل.. تذكّر سعيد الحوز ، مُحاضرة في مسجد وادي جرفة التراثي قبل أن يُغيّر الأهالي اسمه إلى مسجد وادي نزوة.. للأسباب نفسها التي يعلمونها، غضباً على الجائحة التي أخذت الفتاة الحسناء نزوة، ابنة الرجل الأول الذي قيل عنه بأن اسمه يدم، وتشرّفت سفوح السيح الواسع باسمه " سيح يدم" وتخيّل المُحاضر.. ابتعدوا عن السلبيين، تجنّبوا المواقف المُستفزّة، لا تتحدّثوا بمستوى الاستفزاز نفسه، لا تتبعوا أقوال المراوغ، اتركوه وراء ظهوركم، لا تتباهوا أمامه بما تمكّنتم من قوله، اجعلوا سفاهته خلفكم لا تحملوها معكم.. لا تقولوا في لحظات الغضب كلمات جارحة، فالحليم من مَسك نفسه عند ساعة الغضب، في تلك اللحظة يُبين الرجل الشامخ ويُرى الأحمق.. انظروا، كانت الجائحة، رغم أنّها طبيعية، لكنها قضت على نزوة الفتاة الحسناء وأرْدَتها جيفةً مَيّتة، أليست تلك حماقة، نعم الموت له أجل مُسمّى، لكن لا يجب أن يعتدي أحد على أحد ثم نقول قضاء وقدر.. ولا يُمارس شيء بقوة ويبسط تسلّطه عليه بطريقة فوقية، فليس في ذلك قضاءً ولا قدراً مقدوراً.. توقّف سعي الحوز برهة، مطّ بوزه وسحب نفساً وقال بصوت يسمعهُ الجميع.. طيب قُلْ لي كيف؟ أنا ما فهمت عليك؟ أنا لا أكثر الشكوى لأحد، أنا عزيز النفس، أبحث عن فرصة عمل أقتات منها بعرق جبيني، لا تفكّر أنّي أريد مُخالطتكم.. لا ما كنت أودّ الاقتراب منكم لولا أنّكم دفعتموني، كل بطريقته.. أجاب ميلاد إبراهيم وفي عينيه نظرة فاحصة.. ثم ابتسم، وأشار إليه بيده تعال معي.. وسار به إلى بعض أمتار عن الفتيات.. لا تزعل مني.. أنا كنت أريد القول للفتيات: إنّ صديقي سعيد بن يوسف يستحق أن يخدم معنا في الفندق الفخم.. شوف سعيد "دول صبايا، وأنا وأنت نتفق، الخدمة مُهمة يا صديقي، كسب عيش، وتكون لنا صديًقا حميمًا، نخدمك وتخدمنا.

     بدت على سعيد أمنيات وأحلام وحدّث نفسه، قائلا: ها هي أصبحت حقيقة، شدّتهُ رغبة في تلك الفتاة الساحرة بجاذبيتها.. تزاحمت في رأسه أفكار وأسئلة ولكنّ رغبته بالفتاة طغت على كل شيء، كما أن الفتاة الطويلة كاترينا الهزيلة، مُغرمة به إلى حدّ الجنون، شدّتها ملامح سعيد الحوز، وملأت دواخلها برغبة موجودة فيها، مجهولة لكن قاعدة إعجابها بـ سعيد لا تخفى على أحد، سعيد الحوز رجل بمعنى الكلمة.. لماذا نُعرضهُ إلى ضُغوطات نفسية، لا يريد التدخل فيما نعمل، ذلك حقه.. لا يريد أن يكون فضولياً، له كل التقدير، فالقناعة شجاعة والرضا حِكمة.؛ في كل إنسان مشاعر وفضول، مهما بلغ.. سعيد الحوز ليس فوضوياً، يمشي، كما مشى غيرهُ في الحياة.. الطريق طويل أمامنا، يجب أن يكفّ ميلاد إبراهيم عن طرح أسئلة ثقيلة على سعيد.. كما يبدو لي أنّ في داخله نظرة عميقة، وكلمات تبحث عن فراغات رائعة لا ازدحام فيها، كلمات ناقصة إذا استوفت بناءً مُقدّراً لها، من الطبيعي أن تكون رغبة سعيد لا عُمق فيها، غير ظاهرة لكن حتماً في داخله شيئاً جنّبهُ، ويبقى الأمل والأثر الجميل..

       لا يزال سعيد مُهتمًا بها، ينظر إليها ونظراته تتحدّث.. رقيقة وعذبة مُفرطة في كل شيء، وأردف: إنها تبوح بمشاعرها لي، فلماذا استحيي؟ لماذا أخبو عن حضورها الأنثوي، لن أكون خجولاً بعد اليوم، كفى خجلاً، وكفى حياءً.. الحياة تستحق الأكثر والأكثر، وكل شيء سيأتي تدريجياً.. سأقترب من كاترينا، فتاة رائعة بجدايلها "تفرّ الراس" هكذا قالها بالمحلية.
     ابتسم سعيد.. سحب نفساً، ولم يُبدها لغير نفسه.. هزّ رأسه.. وتمتم في داخله، سأكون أقرب إلى كاترينا، سأخبرها عن كل شيء، عسى أنْ تجد لي العمل في الفندق الذي تعمل به... إنّ ميلاد إبراهيم لم يفعل شيئاً لي، إنه مراوغ وكذّاب، ربما مردَ على النفاق والكذب والمُراوغة، رغم أنه مضى على صداقتنا أسبوعًا كاملا ولم يفعل شيء لأجلي، وأخبرته بأنّي أبحث عن عمل.. وليس لدي المال لأبقى في المدينة بلا عمل، إني مضطرّ لأخبر كاترينا ويستلزم التوضيح لها، أخشى أن تفهم بأنّ لديّ مال ولا أبحث عن عمل، لن أدعها تفلت من يدي.. سأكون قريبًا منها، فهي التي سوف تجد لي العمل وسأردّ لها ذلك الجميل بما أقدر عليه، ومن هنا بدأت الحكاية.
يتبع 7

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة