أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
ما من شك أن البشرية شهدت في العقود الأخيرة قفزات هائلة في مجال العلم والتكنولوجيا، قفزات غيرت وجه الحياة على كوكب الأرض بشكل لم يسبق له مثيل، فتأثير هذا التقدم العلمي لا يتوقف عن التوسع يومًا بعد يوم، حتى باتت البشرية بحق تملك مفاتيح قوة لا تضاهى، تقودها نحو آفاق جديدة من الفهم والاكتشاف، فلو نظرنا إلى السماء، سنجدها مليئة بالأقمار الصناعية التي تطلقها أيدٍ بشرية، شاهدة على مدى الإنجاز البشري الذي امتد ليطال حتى الفضاء الخارجي، وربما يومًا ما يستشرف أبعد من حدود مجموعتنا الشمسية.
لكن مع كل هذا التقدم، يطرأ في أذهان البعض سؤال مؤرق: هل العلم نفسه بريء؟ أم أنه يحمل في طياته بذور الخراب، كما هو الحال مع القنابل النووية التي دمرت وأحدثت أهوالًا لا توصف؟ وهل يُمكن أن يكون العلم بلا أخلاق وأخلاقيات؟ الحقيقة أن العلم بحد ذاته مجرد أداة، لا تحمل في جوهرها خيرًا أو شرًا، فالقوة التي يمنحها العلم هي محايدة، أما من يوجهها فهي الإنسانية بأخلاقها وقيمها، فالإنسان هو من يقرر كيف يستخدم هذه القوة، هل في بناء عالم أفضل يزدهر بالسلام والتقدم، أم في صناعة دمار يدفع ثمنه الجميع؟
التاريخ مليء بالأمثلة التي توضح هذا التوازن الحساس، في العصر الحديث، شهدنا كيف ساهمت التكنولوجيا الحيوية في تطوير لقاحات غيرت مسار الأوبئة العالمية مثل جائحة كوفيد-١٩، حيث استطاع العلماء بتعاونهم وجهودهم تحقيق إنجاز علمي ضخم أنقذ ملايين الأرواح وفتح آفاقًا جديدة في مجال الطب.
لكن بالمقابل، هناك أمثلة على كيف يمكن للعلم أن يتحول إلى أداة للدمار إذا غاب عنها البوصلة الأخلاقية، فالقنابل التي أُسقطت على غزة ولبنان تركت جروحًا لا تلتئم في وجدان أصحاب الضمائر اليقظة، وأظهرت كيف يمكن لقوة علمية هائلة أن تتحول إلى كارثة إنسانية عندما تسيطر عليها مصالح ضيِّقة وأنانية مفرطة.
وفي هذا السياق، يبرز سؤال مهم: هل يمكن لأصحاب القيم والمبادئ أن يحافظوا على قيمهم ومبادئهم دون امتلاك القوة العلمية؟ الجواب بسيط لكنه قاسٍ: لا. فبدون العلم، تصبح القيم مجرد كلمات لا وزن لها أمام تحديات العالم الواقعي. إن امتلاك المعرفة العلمية يمنح أصحاب القيم القدرة على التأثير وصياغة واقعهم بدل أن يكونوا مجرد متفرجين يتراجعون أمام من يملك القوة.
لنتأمل في مثال آخر: في عالم السياسة والدبلوماسية، لا يمكن لقادة يحملون رؤى إنسانية نبيلة أن ينفذوا أجندتهم إذا لم تدعمهم قوة العلم والتكنولوجيا في مجالاتها المختلفة.
لذا، على أصحاب القيم أن يدركوا أن امتلاك العلم ليس فقط خيارًا؛ بل ضرورة حتمية، فالعلم هو السلاح الذي يحمي القيم ويعززها، وهو الجسر الذي يربط بين المبادئ الإنسانية والواقع المعاصر، وبدون العلم، قد تتلاشى القيم تحت وطأة الضغوط، أو تُستغل من قبل من يفتقرون إليها.
قد يبدو امتلاك العلم معقدًا أو بعيدًا عن جوهر القيم، لكن الواقع يقول إن غياب هذه القوة يعني حتمًا ضياع القيم وتعثرها، ولذا فأصحاب القيم الذين لا يمتلكون قوة العلم، سيجدون أنفسهم عاجزين عن حماية مبادئهم، وستتراجع مكانتهم حتى تختفي، تاركين الساحة لمن يملكون القوة العلمية، مهما كانت نواياهم.
قد يدّعي البعض أن الله وعدهم بالنصر، وأن الأرض هي ملك لله يورثها لعباده الصالحين، وهذا وعد صحيح بلا شك، لكن هذا النصر لا يتحقق بمجرد التمني أو الانتظار، بل مرتبط بشروط واضحة لا يمكن تجاهلها، فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
هذا يعني أن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل الإنسان، من إرادته وعزيمته على العمل والاجتهاد، لا فائدة من انتظار النصر أو التقدم دون بذل جهد حقيقي في طلب العلم والتقنيات المختلفة، اكتساب المعرفة، وتطوير الذات، فالكسل والتواكل لن يوصلا إلى أي نتيجة، والاعتماد على الآخرين سيبقي النصر بعيد المنال.
لذلك، إن لم يسع أصحاب القيم إلى امتلاك العلم، فإنَّ مصيرهم سيكون الخُسران؛ بل وربما الاندثار في مواجهة عالم يتغير بسرعة، لا يرحم الضعفاء، ولا يمنح الفرص لمن تخلى عن أدوات القوة.
ختامًا، لا بُد من تحذير صارم: قيم بلا عِلم، هي قيم مُهددة بالاندثار، وأصحابها، مهما كانت نواياهم، معرضون لأن يصبحوا ضحايا واقع لا يرحم إلّا الأقوياء، العِلم هو القوة، والقوة تضمن بقاء القيم، أو على الأقل تمنحها فرصة للثبات في عالم لا يعترف إلا بالقَوِيّ.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس