د. بدر بن أحمد البلوشي
في حياتنا، كثيرًا ما نسمع عبارات رنانة عن الطموح، النجاح والتغيير، نجد من يملأ المجالس بالكلام الجميل عن أحلامه، ومن يضع الخطط العظيمة لمُستقبل مُشرق.
لكن، كم من هؤلاء يخطو خطوة حقيقية نحو تحقيق ما يقول؟ الفرق بين من "يريد" ومن "يفعل" هو الفاصل بين النجاح والتأجيل، بين الأحلام والواقع، وهذا ما تجسده قصة بسيطة وقعت في إحدى الجامعات، لكنها تحمل في طياتها درسا عميقا عن الحياة: في قاعة جامعية مزدحمة، ألقى الدكتور على طلابه سؤالًا بسيطا في ظاهره، عميقاً في دلالته: "إذا كان هناك أربعة عصافير على الشجرة، وقرر ثلاثة منها الطيران، فكم بقي على الشجرة؟" جاءت الإجابة فورا من أغلب الطلاب: "واحد".. لكن أحدهم اعترض وقال: "أربعة".. وقف الدكتور مُتعجبًا، وسأله عن السبب، فأجابه الطالب بحكمة: "لأنهم قرروا الطيران، ولم يطيروا بعد، فاتخاذ القرار لا يعني التنفيذ!"
هذه القصة تكشفُ الفارقَ العميقَ بين الإرادة المجردة والإرادة الفاعلة، بين أولئك الذين يصيغون الأحلام بالكلمات، وأولئك الذين يبنون الواقع بالأفعال، بين من يزخرفون المجالس بالكلمات، ومن ينحتون الواقع بأفعالهم، فكم من شخص ملأ الدنيا حديثًا عن طموحاته، لكنه ظل واقفًا في مكانه، أسيرًا لدوائر التردد والتأجيل؟ وكم من آخر لم يتكلم كثيرًا، لكنه شقَّ طريقه بصمتٍ، وجعل من خطواته توقيعًا لا يمحى في سجل الإنجاز؟
الفرق الجوهري ليس فيمن يُقرر؛ بل فيمن يُنفّذ؛ فالكلمات الرنانة قد تُبهِر الأسماع، لكنها لا تغير شيئًا إن لم تترجم إلى خطوات ملموسة. الحياة لا تتذكر من رسموا خططًا على الورق، بل تُخلد من جعلوا من قراراتهم جسورًا لعبور المستحيل، فبين أن تقول "سأفعل"، وأن تفعل حقًا، هناك بحرٌ شاسعٌ لا يقطعه إلا من امتلك الشجاعة للبدء، والعزم للاستمرار.
أشباه الطيور.. أسرى القرارات.. فكم من البشر يمضون أعمارهم وهم عالقون بين النية والتنفيذ؟ يتحدثون بحماسة عن مشاريعهم العظيمة، عن الأحلام التي ستُغير مجرى التاريخ، عن الخطط المؤجلة والمستقبل الموعود، لكنهم لا يخطون الخطوة الأولى.. يملكون الحماسةَ العابرة، لا الإصرار القاطع.
كم من كاتب قرر أن يخط كتابًا عظيمًا لكنه لم يكتب سطرا واحدا؟ كم من شاب قرر أن يبدأ مشروعه الخاص لكنه ما زال في دوامة "سأبدأ قريبًا"؟ كم من موظفٍ قرر تطوير مهاراته لكنه لم يفتح كتابًا واحدًا؟ كم من شخص قرر أن يُغير حياته لكنه ظل حيث كان؟
القرار بلا فعل.. هواءٌ في هواء.. فالحياة لا تعترف بالقرارات المعلَّقة، ولا تمنح المجد لأولئك الذين يتحدثون أكثر مما يفعلون.. العالم لا يتذكر من "قرروا"؛ بل من "فعلوا".. فما قيمة الكلمات إن لم تترجمها أفعال؟ وما جدوى الأمنيات إن لم تتحول إلى خطوات؟
يقول أحد الحكماء: "العزمُ هو الفرقُ بين الحلم والواقع، وبين الخيال والحقيقة." فالفرق بين الناجح والعادي ليس في عدد القرارات التي اتخذها، بل في عدد الأفعال التي نفذها.
لا تكن عصفورًا مترددًا.. ففي كل منَّا عصفور يقف على غصن، يتردَّد بين الطيران والبقاء، لكنَّ الفارق الحقيقي أن بعضنا يُحلق، بينما يظل البعض الآخر أسيرًا للخوف والتردد.
إن كنت قد قرَّرت أن تفعل شيئًا، فافعله الآن.. لا تؤجل، لا تضع قائمةً طويلةً من الأعذار، إن كنت قد اتخذت قرارًا، فاجعل خطوتك الأولى شاهدةً على صدقه، لا تكن أسير التردد، ولا رهينة الأعذار التي تتكاثر كلما هممت بالتحرك. فالأحلام لا تتحقق بمجرد التفكير فيها، والطموحات لا تبصر النور ما دامت محبوسة في أقبية الترقب والانتظار. كم من شخصٍ قال: "سأبدأ غدًا"، لكنه اكتشف أن الغد لا يأتي لمن لا يصنعه، وأن الفرص لا تطرق أبواب المترددين، بل تذهب لمن يسعى إليها بكل ما أوتي من عزم.
الوقت المثالي الذي تنتظره وهمٌ جميل، لأنَّ الحياة لا تمنح ضمانات، ولا تقدم لك الظروف المثالية على طبقٍ من ذهب. الناجحون لم ينتظروا اللحظة المناسبة، بل جعلوا كل لحظةٍ مناسبةً للمضي قُدمًا. العالم مليءٌ بالعصافير التي "قررت الطيران" لكنها بقيت جامدة على الأغصان، تراقب الريح وتنتظر الإشارة التي لن تأتي، فهل ستظل واحدًا منها، أم أنك ستفتح جناحيك أخيرًا وتبدأ رحلتك نحو ما تستحق؟