مُقايضة الحليب بالعلف!

 

 

علي بن سالم كفيتان

لا أدرى لماذا تواجه معظم المبادرات المتعلقة بمربي الماشية في جبال ظفار تحديات جمَّة؛ فالحكومة ممثلة في وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه ومكتب محافظ ظفار قدَّما العديد من الحلول للحفاظ على المراعي والغابات وتخفيض الحمولة الرعوية وتشجيع زراعة المحاصيل الاقتصادية، لرفع مستوى الرفاه الاجتماعي لهذه الشريحة المُهمة من المجتمع منذ ثمانينات القرن الماضي، لكن جميعها تتلاشى في وقت قياسي، رغم انعكاساتها البيئية والاجتماعية البارزة.

من هنا نُجدِّدُ التساؤل ونطرح الموضوع اليوم بوجود إرادة قوية من المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أيده الله- ورعاية كريمة من صاحب السمو السيد محافظ ظفار وإصرار من هيئة البيئة على إحداث تغيير جوهري في الحفاظ على النظم البيئية في جبال ظفار.. فأين يكمن الخلل؟

لا شك أن السلع والمنتجات الحيوانية تعتبر مجالًا خصبًا للاستثمار في ظل وجود آلاف المربيين يمتلكون ثروة حيوانية متنوعة بين الأبقار والإبل والاغنام؛ حيث تساهم طبيعة ظفار الخصبة ومراعيها الممتدة منذ الأزل في دعم بقاء واستمرار مهنة تربية الماشية وتمسك الناس بها، رغم الزيادة المضطردة للماشية وتراجع الموارد الغابَوِيَّة وزيادة الحمولة الرعوية. والمتابع يرى أن صناعة الأعلاف راجت في هذه الظروف المثالية وارتفعت أسعارها بشكل جنوني، ووفَّر بعض المستثمرين في هذا القطاع منتجات مصاحبة كالحليب والعصائر والمشتقات الأخرى، مرتكزين على استيراد الماشية من الخارج ولسنوات طويلة، مما أدخل المُربِّي في معادلات صعبة من أجل الإبقاء عليه كمستهلك دائم، إلى أن أتت توجيهات المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- بإنشاء مجموعة شركات حكومية تخدم هذا القطاع، ومنها شركتي المروج للألبان والبشائر للحوم، وكلتا الشركتين حظيتا بدعم سخي من الحكومة، لكنهما الى اليوم لم تحققا الهدف المنشود من إنشائهما. وهنا نتساءل: لماذا؟

يُمكننا القول إن شركة المروج للألبان ورغم الحذر والشك في النجاح الذي صاحب تجربتها منذ أن تم تحديد سنتين كفترة تجريبية صاحبها بناء مراكز استقبال محدودة، لا تفي بالطلب المتوقع، وتحديد سعر منخفض للِتر الحليب من المُربِّيين، إلّا أن ملاك الماشية أصروا على إنجاح المرحلة، فتوفرت الكميات التي تستوعبها المراكز الثلاثة، وفاض الإنتاج وتوقفت الشركة منذ العام الثاني عن استقبال المربيين، ومع هذا الزخم غير المتوقع، تراجعت الشركة عن التزاماتها بتوفير المقابل المادي بشكل شهري للمستفيدين، ووصلت المتأخرات الى قرابة السنة والبعض اكثر، وأمام هذه المعضلة الاستراتيجية تم فتح سوق المملكة العربية السعودية لحليب الإبل وشركة مزون لحليب الأبقار؛ فتنفس الناس الصعداء، وعادت الروح للمشروع مجددًا، بوجود قيادة جديدة استطاعت التفكير خارج الصندوق، لكن على ما يبدو أن هناك من يقف خلف هذا التقدم الذي انعكس إيجابًا على حياة هؤلاء الناس البسطاء، فقد تحسَّنت معيشتهم بوجود دخل بديل، واستقرت أسرهم، وزادت نسب التعليم في أوساطهم، وبدأت تظهر عليهم علامات الرفاة المنشود منذ 50 عامًا، فقد تغيَّرت سلوكياتهم في إدارة القطعان، وخاصة الإبل، من حيث رعايتها بشكل مُكثَّف داخل الحظائر والتخلص من الأعداد الزائدة للحصول على أكبر كمية من الإنتاج، إلّا أن الأمور عادت الى منعطف آخر هذا العام، فقد تعذر على الشركة منح المُربِّيين مبالغ مالية، فتعاقدت مع شركة أعلاف لمقايضة الحليب بالعلف، وهنا يتجدد التساؤل: لماذا هذا التعثر؟!

بصفتي مُهتمًا بالشأن البيئي ورصد التغيرات التي حصلت خلال آخر ثلاث أعوام، يُمكن الإشارة إلى أن حوالي 30- 40% من قطعان الإبل لم تعد ترعى في الجبال، وهذا التخفيض شكّل علامة فارقة في نجاح المشروع، كما إن الرعاة لم يعودوا يفضلون المكوث في المراعي لفترات طويلة، بسبب الدعم المالي الذي حصلوا عليه من دخل الحليب، وبدأ فكرهم يتحول تدريجيًا من الاستهلاك الى الاستثمار، وهذا هو جوهر الفكرة من إنشاء الشركة وهدفها ورسالتها. ولقد لوحظ في المقابل، تعافي النظم البيئية في الجبال خلال آخر 3 سنوات؛ مما يعني أن المشروع شكّل استدامة للموارد الطبيعية في ظفار وخلق دخلًا اضافيًا لشريحة مُهمة في المجتمع.

من هنا.. ندعو صاحب السمو السيد محافظ ظفار، ومعالي الدكتور وزير الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، ومعالي رئيس جهاز الاستثمار العُماني، للعض بالنواجذ على هذا المشروع الرائد، وإعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، عبر التوسع في مراكز استقبال المُربِّين، ومنح الثقة والاستدامة والدعم الكافي للشركة، وتسليم المُربِّيين مستحقاتهم المالية شهريًا، ووقف مبدأ المقايضة الذي تجاوزته البشرية منذ زمن طويل.

الأكثر قراءة