حقيقة المُسميات وخداعها

 

ماجد المرهون

majidomarmajid@outlook.com

الظرفية تحكُم الفِطرة الإنسانية وتُوقد فيها شُعلة الأسئلة الذاتيةِ عمَّا يحدث حوله وفي مُحيطه بغية الاطمئنان بالفهم حتى يُستثار سؤالٌ آخر، كالإجابةِ على سؤال الطفل في العموم بمسمى الشيء فقط وليس بالتفصيل، ثم يعمد لإحداث تغييرٍ صالحٍ يعود عليه بالنفع دون الإضرار بالآخر وهذه القوامة هي أصل خِلافةِ الإنسان في الأرض، حتى إذا ارتقى إلى مُستوى إدراكي أسمى قليلًا فإنَّ التساؤل عن الماهيةِ والتكوين والأهمية سيكون التالي وصولًا إلى الماورائيات والغيبيات، وهكذا نستمر حتى بلوغ مرحلة الاستفهام عن الظرفيات التي شكَّلت الأُطر العامة لأحداثٍ تتفق عليها نُخب في المُجتمعات وتتبنَّاها دولٌ وحكومات، مثل المبدأ الأزلي في الدفاعِ عن النفس والمكتسبات ومُستحدثاتها كقوانين الجريمة والإرهاب، وهي مُسلَّمات لا يرفُضها كُل عاقلٍ وراغبٍ في إحلال السلام والحريةِ واستتبابِ الأمان والطمأنينة.

إن إطلاق الاسم على شيءٍ ما يجعله موجودًا في الذهن وإن لم يكن له وجود فعلي، كما أن الشيء بلا اسمٍ لا وجود له في الإدراك وإن كان موجودًا في الواقع، ومن هنا يأتي التعريف بعد التسمية لمن لم يكتسب معرفتهُ من قبل لتعيين حتميته والتدليل على أهميته والغاية من وجودهِ، لذلك علَّم الله آدم الأسماء كلها وهو تعليمٌ يؤصل التعيين الوجودي للأشياء في الوعي المُدرك، ليتبقى لاحقًا عنصر المُمارسة واكتشاف الفوائد والمضار وتصنيف الضرورات حسب الأهمية والأولوية في الاستعمال والإهمال.

إذا ما نظرنا إلى فُسحة هذا الكون الواسع سنعلمُ يقينًا بوجود خلقٍ كثير لم يُحط به إدراكنا علمًا حتى نُطلق على مالا نُدرك اسمًا، بيد أن عدم إدراكه لا يعني عدمية وجوده ولذلك يعمد البعض لغاياتٍ وأهدافٍ مقصودة افتعال وجود الشيء وإن لم يكن موجودًا فيطلق عليه الاسم الذي يرتئيه مُناسبًا في خدمةِ توجهاته وأهدافه، ثم يشرع بالعمل على ترسيخهِ في وهم العامَّة ليتعين الوجود الفعلي له مُستعينًا باستدراج الحس الجمعي للترويجِ لأهمية وضرورة ذلك الافتعال أو خطره على المُجتمع وربما العالم والإنسانية، ويصبح الأمر بمرور الوقت موجوداً فعليًا مع دعمه بإثباتاتٍ ودراساتٍ واقعية أعدت لهذا الغرض لتأكيده، مثل افتعال ربط الإسلام بالإرهاب وإطلاق اسم الإسلاموفوبيا مع إسقاطاتٍ إعلامية مُنمقة بعناية تضفي مِصداقًا لازمًا في التمهيد للخطوة التالية، والتي لن تجِد اعتراضًا كبيرًا إذ بات الشيء في عداد الوجود الفعلي، ولنقس على ذلك تغيير اسم خليج المكسيك مُؤخرًا والتلويح بضم جزيرة جرينلاند الدنماركية وكندا إلى أمريكا ومحاولة استصلاب هذه الأفكار الرخوة حتى تجد لها موطئًا صلبًا بعد حين.

وهكذا درجت عادةِ ما تنسُجه القوى الغربية الكبرى من شباك الوهم على وعي الشعوب حول العالم بهدفِ الحفاظ على مصالحها والبقاء في حدود القبول المنطقي لدى الشعوب من جانب، وعدم تأجيج الرأي العام الداخلي لديها من جانب آخر، وقد نجحت إلى حد بعيد في تأصيل هذا التوجه مع الاستعانة بآلتها الإعلامية التي تُظهر بدورها المهنيةِ والنزاهةِ وهي ليست كذلك، فيبدأ كِبار قادتهم وساستهم باستعمال المسميات المُستحدثة التي أطلقوها وكرروها بشكل مستمر ومتواصل ليتأثر بها الوعي العام للمتلقي ومن الطبيعي أن يتأثر عندما يجد إجماعًا شبه مطلق من عليةِ القوم، حتى يصل بهم الأمر في طورٍ من الأطوار باعتقاد لا يدانيه شك أن الأمر في خدمتهم وخدمةِ الإنسانية جمعاء وفي الحقيقة هو لا يخدم إلا نُخبةً مجهرية على حساب ملايين البشر في الطرف الآخر من الكوكب، لكنها تُظهر تحييد المصالح الشخصية تحت رداء الوطنية.

أَرادت الإدارة الصهيونية المُحتلة إفراغ المقاومة من مُحتواها الشرعي والأصيل عندما بدأ يشتد عودها بالدفاع عن الوجود الإنساني وعن أرض وعرض أصحاب الحق الأصليين، وكانت القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا قد أطلقت كلمة "إرهاب" على مجموعة قوانين شديدة الصرامة لتستطيع تفعيلها في الوقت المناسب أو عندما تشعر بتهديد مصالحها، والإفتآت في الذرائع يرمق من طرف خفي لكل من أوتي فهمًا وإن كان بسيطًا لكشف صلافة قلب الحقيقة، فألقت بالمنطق والمعقول وراء ظهرها واستغفلت العالم كله في ممارسة دور الأب على الابن والمُعلم على الطالب بأن تُطلق على حركات المقاومة "إرهابًا" والمحتل الذي لا يُعتبر دولة بالمفهوم الحقيقي للدول هو صاحب الحق المُفترى عليه وهو لم يفعل شيئًا سوى الدفاع عن نفسه.

من هُنا ومن منطلق التسميةِ والتعريف بعد اللعب طويلًا على وتر الحقيقة بالتحريف وإحلال حقيقة صلبة أخرى من الزيف فقد سهُلت عملية تحريك الرأي العام العالمي مع دعمٍ إعلامي مركز من الحلفاء، حيث سيدور الأمر كله حول مِحور مكافحة الإرهاب ولن تنظر الشعوب الغربية إلا من نافذة التزييف الممنهج الذي مُورس على وعيها العام لعشرات السنين وقد يعتقد الكثير منهم من غير المعنيين بالقضية الفلسطينية أن المقاومة هي بالفعل إرهابًا بعد أن وقعوا فريسةً سائغةً في شراك غول التضليل، والحقيقة أن الأمر لم يعد نظرية قابلة للدحض أو التشكيك وقد انكشفت للجميع وبان وجه الحقيقة وتجلى منذ اليوم الأول لطوفان الأقصى عندما سعى الكيان المحتل بطرقٍ هستيرية وفاضحة وبكل قوته مع تحالفاته الظاهرة والخفية إلى ترسيخ حيله القديمة في محاولات شبه يائسة لإبقاء شعوب العالم التي استفاقت فجأة على الواقع الصادم لإرهاب المحتل ومن يسانده بعد أن كان إدراكها لا يمكنه إلا تصديق فكرة الفقاعة السائدة التي نُفخت وهم داخلها لأكثر من سبعةِ عقود، حين بدأ في مراحله الأولى بالمسكنةِ وتقمُّص المظلومية وإطلاق مُسمَّى الأحقية العقائدية بالأرض الموعودة ودعم الادعاءِ بالفلسفات التأملية في أقسام التلمود وأسفار العهد القديم واعتمادات البروتستانتية اللوثرية والكالفينية.

أضحى مُسمى "طوفان الأقصى" مكافئًا لانتزاع الحقوق بالقوة من بين أنياب الظالم ومخالب المتغطرس الغاشم الذي ظل على صدر الحرية جاثمًا وهو يُمثِّل الظهور بمسكنة الحمل الوديع والمظلوم لأكثر من ألفين عام، حتى إذا قرر مكافئة نفسه بدولة لاحق له فيها افتعل ربط تهويمات تاريخية شديدة التفكك علمًا بأن قابلية نقضها سهل جدًا وبشيءٍ يسير من البحث غير المعقد، وقد تبين مصداق كل ذلك من خلال تفاعل أصحاب الأرض الباقون في وطنهم بالمقارنة مع المهجَّرين القدامى المظلومين والمستوطنين الجدد المؤدلجين إذ لاذوا بالفرار إلى دول شتاتهم حينما استشعروا الخطر ومنذ الأيام الأولى.

بدأ نُضج الوعي لدى معظم شعوب العالم اليوم واضحًا في عملية البحث الفعلي عن الحقيقة بهدف تسمية الأشياء بمسمياتها الأصلية ورفض الأجوبة الطفولية مع تحول المقاومة الشعبية الفلسطينية إلى قضية رأي عام، وذلك لإزالة الغباش المتراكم على العقول المستغفلةِ التي كان يفرضها ويُسيرها شرذمة الآباء المتطرفون في الخفاء ونُخبة الساسة المُتسلطون في العلن خدمةً لمصالحهم على حساب غيرهم، وقد بدأت ملامح انتصار الحقيقة تلوح في الأفق.

الأكثر قراءة