تشو شيوان **
مع اقتراب موعد عيد الربيع الصيني، المعروف أيضًا باسم "السنة القمرية الصينية الجديدة"، تتجدد الأجواء الاحتفالية التي تعكس روح هذا العيد المُميز. يعتبر عيد الربيع أحد أهم الأعياد التقليدية في الصين، وله طابع خاص يميزه عن بقية المناسبات. فهو ليس مجرد مناسبة للاحتفال برأس السنة وفقًا للتقويم القمري الصيني، بل هو فرصة للتأمل والتطلع إلى حياة مليئة بالأمل والسعادة، تجمع الناس مع عائلاتهم وأحبائهم في أجواء مليئة بالدفء والفرح.
ما يُميِّز هذا العيد أنَّه أكثر من مجرد احتفال، بل هو تجسيد حي لثقافة عريقة تعود لآلاف السنين. إنه حدث يربط الماضي بالحاضر، ويمنح الفرصة لتوريث القيم والتقاليد للأجيال القادمة. لا يقتصر العيد على الصينيين وحدهم، بل بات يمثل رمزًا عالميًا للتسامح الثقافي والانفتاح على حضارات مُختلفة.
وفي ديسمبر الماضي، جاء اعتراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) بهذا العيد التقليدي كجزء من التراث الثقافي غير المادي للبشرية، ليؤكد على أهميته وقيمته الثقافية. إدراجه على هذه القائمة التمثيلية ليس مجرد تكريم للصين؛ بل هو تكريم للحضارة الإنسانية بأسرها؛ فالثقافة الصينية، بتاريخها الطويل وتنوعها الغني، كانت دائمًا جزءًا لا يتجزأ من الإرث الثقافي العالمي، ومصدر إلهام للمُجتمعات المختلفة.
الاحتفال بعيد الربيع الصيني يذكرنا بأنَّ التقاليد ليست مجرد عادات موروثة، بل هي وسيلة لتعزيز الروابط بين الأفراد والمجتمعات. في زمن أصبحت فيه الحياة سريعة وتفتقد إلى التواصل الحقيقي، يوفر هذا العيد مساحة للتوقف والتأمل، للاجتماع مع العائلة ومشاركة الفرح. كما أنه يجسد الأمل بمستقبل مشرق ويعزز الشعور بالانتماء، ليس فقط للأمة الصينية، بل للإنسانية جمعاء.
علينا أن ننظر إلى الأعياد التقليدية مثل عيد الربيع الصيني، ليس فقط كفرصة للاحتفال، بل كنافذة نطل منها على ثقافة غنية تحمل في طياتها دروسًا في التواصل الإنساني والقيم المشتركة التي تجمعنا. إنه تذكير بأنَّ الفرح والسعادة ليسا مجرد مشاعر عابرة، بل هما نتيجة للتواصل الحقيقي مع من حولنا ومع تراثنا الثقافي.
يمثل عيد الربيع الصيني العطلة التقليدية الأهم في الصين ويرمز إلى أمل الشعب الصيني في مستقبل أفضل للحياة والأسرة والبلاد. وتم انتقال عيد الربيع عبر الأجيال منذ تاريخ طويل، ويوفر قوة روحية دائمة للشعب الصيني، كما يلعب دورًا مهما في تعزيز التناغم الأسري والاجتماعي، وبين الطبيعة والإنسان. فإن إدراج عيد الربيع على قائمة اليونسكو سيساعد في تعزيز القيم العالمية للسلام والتناغم وإظهار الدور المهم للتراث الثقافي غير المادي في التنمية المستدامة.
وخلال السنوات الماضية، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحضارة العالمية، ويدعو إلى التبادلات والتعلم المتبادل بين الحضارات والثقافات والشعوب المختلفة، فأعتقد أن عيد الربيع الصيني هو وسيلة ممتازة لتنفيذ مبادرة الحضارة العالمية والمساعدة على انتشار الثقافة الصينية التقليدية، حيث نعرف أن عيد الربيع إرث للمفاهيم الثقافية الصينية المتمثلة في السلام والوئام والتناغم، ومن خلال المشاركة في أنشطة عيد الربيع المختلفة، يمكن للشعوب في جميع أنحاء العالم فهم الصين بشكل أوسع وأعمق، وإدراك التسامح والتناغم .
ومع حلول عام 2025، يكتسب عيد الربيع الصيني أهمية خاصة، فهو أول عام يُحتفل به بعد إدراجه على قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية من قبل منظمة اليونسكو. هذه الخطوة تعكس الاعتراف العالمي بالقيمة الثقافية والتاريخية لهذا العيد، الذي يمثل أحد أعمق تقاليد الشعب الصيني وأكثرها جمالًا.
لطالما اعتبرت سهرة عيد الربيع الصيني نافذة فريدة تطل منها على روح هذا العيد وثقافته. ومن وجهة نظري، تعد هذه السهرة فرصة مثالية لأصدقائي العرب للتعرف على أجواء الاحتفال بهذا العيد المميز. فمنذ انطلاقها عام 1983، أصبحت السهرة جزءًا لا يتجزأ من احتفالات الصينيين، ليس فقط داخل الصين؛ بل في جميع أنحاء العالم.
هذه السهرة ليست مجرد برنامج تلفزيوني عادي؛ بل هي ظاهرة ثقافية مدهشة.. إنها تجمع ملايين الأسر الصينية عشية عيد الربيع للاحتفال بقدوم العام الجديد، وتمثل جسرًا يربط بين الأجيال المختلفة. ما يميزها هو قدرتها على المزج بين التقاليد الصينية القديمة والعروض الحديثة، مما يجعلها قريبة من قلوب الجميع.
ومن المدهش أن سهرة عيد الربيع تحطم أرقامًا قياسية كل عام في نسب المشاهدة. فكونها واحدة من أضخم الفعاليات التلفزيونية على مستوى العالم، تصل مشاهداتها إلى مليارات الأشخاص عبر الشاشات ومنصات الإنترنت. هذا النجاح الباهر ليس مجرد صدفة، بل يعكس الجهد الهائل المبذول في إعدادها، بدءًا من العروض الفنية التقليدية إلى الفقرات الموسيقية الحديثة والكوميديا.
من وجهة نظري، أن أهم ما يجعل هذه السهرة مميزة هو قدرتها على خلق شعور بالتواصل والدفء. إنها ليست مجرد عرض فني؛ بل تجمع بين الملايين في لحظة احتفالية واحدة، حتى وإن كانوا على بُعد آلاف الأميال. إنها ترسخ فكرة أن الاحتفالات والتقاليد لها القدرة على توحيد الناس، بغض النظر عن اختلاف الثقافات واللغات.
بالنسبة لي، أرى أن مشاهدة سهرة عيد الربيع الصيني تجربة غنية يمكن أن يستمتع بها الجميع، خاصةً أصدقائي العرب الذين يرغبون في استكشاف الحضارة الصينية. فهذه السهرة تمنح فرصة للتعرف على الجوانب الثقافية والفنية لهذا العيد بشكل عميق وممتع. كما أنها تتيح للمشاهدين الشعور بجزء من هذا الاحتفال العالمي المبهج، الذي يجمع بين الأمل، الفرح، والقيم العائلية.
وتشمل السهرة العروض الفنية المتنوعة وتستغرق أربع ساعات ونصف تقريبا، حيث يقدم فنانون بارزون من مختلف أنحاء الصين والعالم أغاني وطنية وشعبية تعكس الروح الاحتفالي؛ وتعرض رقصات تقليدية وحديثة تمثل ثقافات القوميات المختلفة في الصين والعالم، إضافة إلى الدراما الكوميدية حيث يتابع المشاهدون بفارغ الصبر فقرات كوميدية مليئة بالمرح والسخرية، والتي غالبًا ما تتناول قضايا اجتماعية بأسلوب طريف؛ وهناك بعض عروض الألعاب البهلوانية المذهلة التي تسلط الضوء على مهارات الأداء الحركي. وخلال السنوات الماضية، تم استخدام مزيد من التكنولوجيات المتقدمة مثل تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، لخلق تجربة مشاهدة استثنائية.
في النهاية.. يمثل عيد الربيع الصيني أكثر من مجرد مناسبة قومية؛ إنه رمز عالمي يعبر عن الأمل والسلام والمحبة. إنه مناسبة تذكرنا بأن التقاليد ليست حكرًا على زمن أو مكان معين؛ بل هي إرث إنساني عابر للحدود، يساهم في صنع عالم أكثر تنوعًا وانسجامًا.
** صحفي في مجموعة الصين للإعلام، متخصص بالشؤون الصينية وبقضايا الشرق الأوسط والعلاقات الصينية- العربية