العقلية العقابية في حرائق كاليفورنيا

 

 

 

 

بدر بن خميس الظفري

@waladjameel

 

تشهد ولاية كاليفورنيا الأمريكية حرائق غابات مدمرة، وُصفت بأنها الأعنف في تاريخها الحديث. هذه النيران، التي تأتي على الأخضر واليابس، تجاوزت حدود التصور؛ حيث اضطُر أكثر من 360 ألف شخص للفرار من منازلهم، وانهار أمامها أكثر من 10000 مبنى، تشمل مساكن ومنشآت حيوية، والخسائر الاقتصادية وحدها قُدرت بين 135 و150 مليار دولار.

هذه الإحصائيات ليست مجرد أرقام؛ بل إنها شهادة متجددة على هشاشة الإنسان أمام جبروت الطبيعة التي خلقها الله لنا لنعيش جمالها ونستمتع بعطائها، وهي دعوة للتأمل في نظرتنا إلى هذه الطبيعة.

يقول الفيلسوف السويسري الفرنسي جان جاك روسو: "الطبيعة لا تخوننا أبدًا؛ نحن من نخونها". كلمات روسو تُلخِّص مأساة اليوم؛ حيث الحرائق ليست مجرد كوارث طبيعية صرفة؛ بل هي نتيجة مباشرة لتراكم الإهمال البشري، من إزالة الغابات الجائرة إلى الانبعاثات التي تفاقم الاحتباس الحراري، فالطبيعة ليست عدوًا يتحين الفرصة للانتقام؛ إنها مرآة تعكس أفعالنا. وكأن هذه النيران تقول: "ما يحدث هنا ليس عقابًا، بل نتيجة طبيعية لمنطق الإنسان في استغلال موارد الأرض".

في هذا السياق، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي أصوات شامتة في هذه الكارثة، معتبرة أنها عقاب إلهي لما وصفته بأفعال الولايات المتحدة السياسية، خاصة دعمها لإسرائيل خلال النزاعات الأخيرة في غزة. هنا نتساءل: إلى أين وصل بنا الفكر الإنساني؟ هل نحن عاجزون إلى هذا الحد عن التعاطف مع معاناة الآخر؟ ألم يقل الشاعر إيليا أبو ماضي: "كن جميلًا ترى الوجود جميلًا"؟ ومن هُنا فإنَّ الشماتة ليست سوى مرآة لقبحٍ داخليٍ يعجز عن رؤية جمال الإنسانية المشتركة.

هذه الشماتة تُعبِّر عن قِصر نظر أخلاقي وغياب عميق للفهم؛ فالكوارث الطبيعية لا تُميِّز بين مُذنب وبريء، وبين ظالم ومظلوم. يقول الأديب والمسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو: "الحياة ليست لإثبات من هو الأذكى؛ بل لإثبات من هو الأكثر إنسانية"؛ فالإنسانية الحقة لا تعرف الانقسام ولا تخضع لمنطق الثأر السياسي أو الأيديولوجي.

وحينما ننظر إلى النيران المشتعلة في غابات كاليفورنيا، يجب أن نراها باعتبارها تذكيرًا مؤلمًا بأننا جميعًا بشر معرضون في أي لحظة للمصير نفسه ما لم نتعلم كيف نحيا بتناغم مع الأرض، ومع بعضنا البعض.

إنَّ هذه الحرائق دعوة للتأمل، ليست فقط في هشاشتنا ككائنات تعتمد على الطبيعة للبقاء؛ بل في مسؤوليتنا تجاهها، فبرغم كل ما تبدو عليه الطبيعة من قسوة، فهي تمنحنا دائمًا فرصة للتعلم. في كل شعلة نار تلتهم غابة، هناك صوت يدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالكوكب كله. كما قال الأديب والفيلسوف الروسي فيودور دوستويفسكي: "الإنسان حقًا إنسان فقط عندما يشعر بمعاناة الآخرين".

لكن هذا الشعور بمعاناة الآخرين لا يقتصر فقط على الضحايا في كاليفورنيا؛ بل يمتد إلى كل من يعانون في هذا العالم؛ لأن التعاطف ليس موردًا محدودًا. ويمكننا أن نتعاطف مع سكان كاليفورنيا، ونحزن لما أصابهم، وفي ذات الوقت، نرفع أصواتنا دعمًا للمظلومين في مناطق أخرى مثل غزة الجريحة والسودان المنكوبة واليمن المحاصرة وغيرها من المناطق في العالم.

الإنسانية ليست لعبة صفرية؛ حيث الرحمة لطرف تعني نزعها عن آخر؛ بل هي شبكة واسعة، تقوى كلما توسعت وتشابكت.

إن الطبيعة، في قسوتها الظاهرة، تعطينا دروسًا عن استمرارية الحياة، فالغابة التي تحترق ليست نهاية الحكاية؛ فالنار، رغم دمارها، تفسح المجال لنمو جديد. وهذا الدرس الطبيعي يمتد إلينا كبشر؛ إذ إن الكوارث، مهما بدت قاسية، يمكن أن تكون فرصة لإعادة البناء، ليس فقط للبيوت والغابات، بل للأفكار والمبادئ التي تحكم حياتنا.

يقول الأديب والروائي المصري نجيب محفوظ: "الرجل الذي لا يعرف الرحمة لا يُعول عليه". وهذه الكارثة هي اختبار لقدرتنا على استحضار الرحمة، ليس فقط في التعاطف مع الآخرين، بل في التصالح مع الطبيعة نفسها. فلا يمكننا أن نستمر في طريق الاستهلاك المفرط وتدمير البيئة دون أن نتوقع أن تدفع الأرض ثمنًا باهظًا. الحرائق في كاليفورنيا ليست معزولة عن سياق عالمي من تغير المناخ، من أعاصير وفيضانات وجفاف، كلها تُشير إلى أنه قد حان الوقتُ للتوقف ومراجعة النفس.

يجب أن ندرك أن الطبيعة لا تعرف السياسة، والنيران لا تختار ضحاياها بناءً على انتماءاتهم الدينية أو توجهاتهم السياسية. إنها مجرد انعكاس لقوانين كونية فيزيائية وكيميائية وجيولوجية نكرر تجاوزها. وكما قال الشاعر الفلسطيني محمود درويش: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

نعم.. هناك الكثير مما يستحق الحياة: غاباتنا، وقيمنا الإنسانية، وقدرتنا على التعاطف، ورغبتنا في بناء عالم أفضل. لكن هذا الجمال لن يحمي نفسه، وعلينا أن نتكاتف جميعًا، في مواجهة النيران التي أشعلناها نحن؛ سواء كانت نيران الغابات أو نيران الانقسام. فقط حينما ندرك أننا جزء من هذا العالم، يمكننا أن نأمل في مستقبله.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة