د. عبدالله باحجاج
يبدو العنوان أعلاه مُثيرًا، لكنه خبرٌ صحيحٌ، وكل مُطَّلع على مُستجدات التحولات الكبرى كتطبيع بعض دول الخليج مع الكيان الصهيوني عام 2021، أو تداعياتها مثل مقتل الحاخام الصهيوني زافي كوغان في دولة خليجية قبل أيام، سيقفُ على محاولات إقامة مُجتمعات يهودية في دول مجلس التعاون الخليجي، في بعضها لا يزال الهدف حلمًا، لكن لا نرى هناك ضمانات قوية تحُول دون تحقيق الحلم اليهودي فيها، إذا ما نجحت في غيرها، والتَّبرع بالمليون دولار قد كشفه جاريد كوشنر ونسبه لنفسه ولزوجته إيفانيكا ابنة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، بمعنى أنَّه لا مجال للتشكيك فيه، والذي ينبغي التوقف عنده هنا 3 قضايا مُهمة، تصب في المخاوف الوجودية في الخليج، نرصدها فيما يلي:
ما الغاية من هذا التبرع؟ ومخاطر السماح للجاليات في الخليج بتلقي تبرعات مالية ودعم سياسي من قوى خارجية (دول- منظمات- نخب)؟ وإنعكاسات ذلك على مجتمعاتها، في ظل حقبة الانفتاح التي يقودها البعض براديكالية مُتعصِّبة ضد الهوية بقيمها ومبادئها المُتجذِّرة في الخليج، وكذلك التشديد المالي على المجتمعات ووجود جيل كامل إمَّا باحث عن عمل أو يتقاضى رواتب مُتدنية ومحدودة.
وحتى نضع تلك الهواجس في صُلب التطورات، وبالذات التبرع بالمليون دولار، فإن كوشنر قد أرجع الغاية منه إلى دعم المجتمع اليهودي الذي يتأسس الآن في دولة خليجية، وتعهَّد بتقديم هذا الدعم المالي لمنظمة يُطلق عليها اسم "حباد" وهي حركة يهودية متشددة، وافتتحت فرعًا لها في المنطقة، وأوضحت هذه المنظمة أنَّ الخاحام المقتول كان مع آخرين مبعوثين لها لتأسيس و"توسيع الحياة اليهودية في المنطقة"- والقول هنا للحركة- كما أوضحت أنَّ دور فرعها إقامة أول مركز تعليمي يهودي في الخليج العربي، وجعل طعام "الكوشر" (الطعام المُباح تناوله وفق التعليمات اليهودية) متاحًا على نحو واسع في المنطقة. ومن جهته، أرجع كوشنر مقتل الخاحام إلى أنه يهدف إلى "وقف مد الجسور التاريخية بين اليهود والمسلمين"، على حد قوله.
لن يكون تبرع كوشنر وإيفانيكا دون علم وموافقة الرئيس ترامب؛ بل بالتنسيق معه وربما من أفكاره ودعمه، فكيف إذا ما استلم السلطة قريبًا؟ ومن المؤكد أن تأسيس المجتمعات اليهودية والمسيحية في المنطقة، وتمكينها من أدوات التأثير سيكون الشغل الشاغل لترامب وإدارته الجديدة، ويكفي أن نعلم حجم الأموال اليهودية والمسيحية في نجاحه في الانتخابات الرئاسية، ونعلم على وجه الخصوص الدور الفكري والسياسي والمالي للتيار المسيحي، وبالذات البروتستاني في فوزه على الرئيس جون بايدن، وفي تأطير فترته الرئاسية؛ فهو وراء مشروع "أمريكا 2025"، وقد تناولناه في مقال سابق، لذلك؛ فالوجود اليهودي والمسيحي في الخليج يُراد له الاستدامة لدواعي قلب التوازنات الديموغرافية والثيولوجية/ الدينية فيها.
واستدلالاتنا على الديمومة كثيرة، مثل: إقامة فرع لمنظمة "حباد" اليهودية المتشددة، وكذلك تأسيس رابطة للمجتمعات اليهودية في الخليج في عام 2021، ويُخطَّط لها أن يكون لها فروع في كل عاصمة خليجية، وأن يكون لها أعضاء من الدول الست؛ لذلك فإنَّ الخطة الأمريكية في حقبة ترامب ستنصب على إقامة مجتمعات يهودية وتعزيز المسيحية في منطقة الخليج لدواعٍ فضفاضة، من بينها التعايُش السلمي بين المسلمين واليهود، وكأنَّ هناك يهودًا من أصل خليجي في الدول الست يستوجب حماية حقوقهم الوطنية!! وهنا مُغالطة؛ فالمصادر التي بحثنا فيها لم تذكر وجود يهود من أصول خليجية سوى في دولة واحدة، وصولوا إليها من إيران والعراق في أواخر القرن التاسع عشر.
وبعد استلام ترامب للسلطة، لا نستبعد أن يتعزَّز الدعم المالي والسياسي للحركة وللرابطة، وقد تتعرض المنطقة لضغوط قوية بمختلف أدوات الضغط السياسية والاقتصادية، أو أن تُدفَع المنطقة إلى سَنِ تشريعات لدمجهم وحمايتهم بقوة التشريعات المحلية المُلزِمة؛ فدول مجلس التعاون الخليجي ستتعامل مع رئيس جديد لأمريكا معروف عنه أنه يفكر ويعمل دائمًا خارج المألوف؛ أي خارج المنطق التقليدي- وفق توصيف البعض- ومن خارج الأُطر التقليدية للسياسة الأمريكية، وقد اختار ترامب إدارة (حكومة) ولاؤها له وللكيان الصهيوني، وهي الأكثر ثراءً، مما يعني أن مستقبل أمريكا داخليًا وخارجيًا بين أيدي أصحاب المليارات!
ونشير كذلك إلى دور مريم أديلسون أرملة الملياردير الصهيوني شيلدون أديلسون، التي تبرعت لحملة ترامب بمليون دولار، كما فعل زوجها وتبرع بتسعين مليون دولار لحملة ترامب في الانتخابات الرئاسية 2016، والتي فاز فيها ترامب. وشهدنا في فترته كما كان منحازًا للصهاينة، فقد اعترف بالقدس عاصمة للكيان، وأقر بسيادة الكيان على هضبة الجولان السورية، ونجزم- مع غيرنا- أن ترامب قد قدم وعودًا أكبر لمريم أديلسون في فلسطين المحتلة وخارجها، والخارج سيكون منطقة الخليج؛ لأنها تستحوذ على القوة الناعمة الصلبة التي ستستهدف كما استهدف دول القوى الخشنة، وقلب عاليها سالفها. وإقامة مجتمعات يهودية في الخليج يعني إقامة أحياء يهودية كاملة المقومات، مثل كنائس ومنازل ومدارس ومراكز تجارية ومؤسسات خيرية، بخلاف حرية الاستثمار والتجارة وإقامة الشركات.
وعندما نتأمل في السماح للجالية اليهودية في الخليج بتلقي التبرعات من الخارج، وبفتح فروع في كل عاصمة خليجية، فإننا نرى التبعات من الآن مسبقًا وفوريًا، وكيف إذا ما استفادت من هذه المسارات الجاليات الأجنبية في الخليج؟ فما مستقبل السلم الاجتماعي الخليجي؟ بل مستقبل الدولة الوطنية في الخليج؟ علمًا بأن هذا المستقبل تكتنفه مجموعة أزمات داخلية بسبب الانفتاح الحُر والمُطلق للبعض على الحريات العامة، وبسبب التحولات البنيوية لدور الدولة الخليجية، خاصة على الصعيد الاجتماعي، وبسبب اللجوء إلى منظومة الضرائب. لذا لن يصمد طويلًا جيل الباحثين عن عمل، وأصحاب الرواتب الضعيفة، وجيل التغريب وفقدان الهوية، أمام قوة الوجود الأجنبي الجديد، ماليًا واقتصاديًا وسياسيًا.
ولنتصور الخليج بعد 10 سنوات فقط من الآن، خاصة وأن التغلغل اليهودي في الدول الخليجية الست لن يكون بالضرورة عن طريق التطبيع، وإنما من خلال عدة منافذ شرعية، وبمجرد أن يكون في دولة ما سيمتد تباعًا لبقية الدول، كما إن جنوح جذب الاستثمارات الأجنبية قد يكون مدخلًا كذلك، فكل الدول تسمح للأجانب بتملك العقارات في المجمعات السياحية، وأخرى تنفرد بالسماح خارجها، إذن، الخليج إلى أين؟
نضع هذا التساؤل فوق الطاولات السياسية للدول للتفكير في المآلات من خارج الأطر التقليدية لتفكيرها السياسي.