خالد بن سعد الشنفري
منذ بدايات نهضتنا الحديثة المُباركة عام 1970 كانت الرؤية الثاقبة لمفجرها وبانيها السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- تتمثل في نشر نواة مظلة التنمية العمرانية والصحية والثقافية والاجتماعية فيما كان يعرف آنذاك بـ"المناطق النائية" في جبال ظفار ونجدها وباديتها، بأسرع وقت ممكن، وقد كانت بحق تنمية حثيثة وشاملة ومُتسارعة في صورة عشناها، ولم نعرف لها مثيلاً؛ شملت كل تلك المناطق دون استثناء بالتزامن؛ حيث كانت قبلها شبه خالية من التجمعات السكنية؛ نظرًا لطبيعتها وكون سكانها كانوا يعتمدون في معيشتهم على الرعي أساسًا والتنقل بحثًا عن الكلأ والمراعي لحيواناتهم.
وتأسست بذلك نواة تجمعات مدنية ثابتة لأول مرة في تاريخها، تراوحت ما بين مركز إداري يتبع لنيابة ولاية، تتبع بدورها لولاية من ولايات ظفار العشرة، المترامية الأطراف؛ سواء على سلسلة جبال ظفار أو نجدها وباديتها، وتتبع جميعها لمكتب وزير الدولة ووالي ظفار- آنذاك- وكانت هذه المراكز تمثل النواة الأولى. وقد ابتدأت بمراكز الفرق الوطنية الباسلة التي تشكلت من أبناء رجال قبائل تلك المناطق كلٍ في منطقته وذلك نتيجة للحرب القائمة رحاها حينها.
وبعد 5 سنوات من عمر النهضة وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في العام 1975، انطلقت المرحلة الثانية من تطوير هذه المراكز والنيابات بإنشاء مراكز إدارية مُتكاملة تقدم كل الخدمات العصرية الحديثة تقريبًا من صحة وتعليم وخدمات مدنية وإدارية للمواطنين، وتقوم بعملها بطريقة لا مركزية؛ فشُيِّدَت بها المدارس الحديثة، بدلًا عن الخيمة أو التعليم "تحت تحت ظل شجرة" والعيادة الصحية والمستشفيات، عوضًا عن الطبيب الطائر، وإدارات خدمات شاملة متكاملة في شتى مجالات الحياة؛ كحفر آبار المياه ومضخاتها كأولوية، وتمديدات الكهرباء وشق الطرق الترابية والمسفلتة تباعًا لربطها ببعض، وليسهل التواصل فيما بينها بيسرٍ، ومن ثم انشأت إدارات الإسكان الريفي الذي أُفرد له قانون خاص بتنظيمه أشرف عليه السلطان قابوس- طيب الله ثراه- بنفسه وكذلك الأشغال العامة والخدمات البلدية كالنظافة والتفتيش الصحي على محلات المواد الغذائية وغيرها وصيانة كل تلك المؤسسات بانتظام.
وبتاريخ 15 مارس 2022 صدر لي مقال في جريدة الرؤية بعنوان "الفرق الوطنية الباسلة وكلمة حق في مدينة الحق"، تناولتُ فيه بدايات تأسيس مراكز الفرق الوطنية ودور مكتب المندوب المدني الملحق بها والذي يتبع لدائرة تحسينات ظفار- آنذاك- التابعة لمكتب وزير الدولة ووالي ظفار اللذين كان لهما الدور الأكبر في تفعيل هذه المجمعات وجذب السكان للإقامة بها حتى أصبحت بعد 5 سنوات نيابات ومراكز إدارية متكاملة تشمل خدماتها الإسكان الريفي والخدمات البلدية والأشغال العامة وصيانتها.
اليوم وبعد إلغاء نظام النيابات والمراكز الإدارية على مستوى محافظات السلطنة، وآلت جميعها إلى وزارة الداخلية، فإن أعداد هذه النيابات والمراكز الإدارية الكثيرة في محافظة ظفار وانتشارها على رقعة جغرافية كبيرة ومتنوعة التضاريس من جبال ووديان ونجد وبادية تزيد المسافة بين بعضها ومركز المحافظة أكثر من 300 كم وكلها منشآت حديثة بنيت على أفضل المواصفات العالمية.
وسنقف في هذا المقال على ما حلَّ بمنشآت هذه النيابات والمراكز الإدارية بعد أكثر من ثلاث سنوات على إلغائها بعد أن كانت عامرة في كل شيء، وما إذا كان ذلك في صالح التنمية والوطن والمواطن عمومًا أم عكس ذلك، خصوصًا في محافظة ظفار بالذات، لبعض ما تمت الإشارة إليه أعلاه واختلافها عن بقية محافظات السلطنة عمومًا.
أصبحت اليوم للأسف الشديد خاوية على عروشها؛ لدرجة أن الأعلام الرسمية ورمز الوطن المنصوبة عليها- والتي كانت مرفرفة على سواريها- تمزقت نتيجة الإهمال وجراء الأمطار الموسمية في الخريف والرياح في الشتاء، وعدم وجود رقابة أو صيانة دورية لها، كما كان سابقًا، وبهتت ألوانها حتى وصلت لحد التشويه، بعد أن توقف موظفوها عن العمل بها وتعذرت بذلك صيانتها رغم تكلفتها الباهظة؛ سواء من الميزانية العامة للدولة الناشئة- آنذاك- أو من المعونات السخية والكريمة من بعض دول الخليج وعلى رأسها الكويت والسعودية لدعم السلطنة في حربها في تلك المرحلة فانتشرت حواليها سريعاً المسورات العشوائية غير المرخصة التي تقام بين ليلة وضحاها لعدم وجود الرقابة الإدارية التي كانت تمارس عليها من موظفي هذه النيابات والمراكز؛ لأنَّ "أهل مكة أدرى بشعابها" كما يقال، وأصبح من يزور هذه المناطق اليوم في جبال ظفار يتعذر عليه حتى وجود أماكن للاستراحة والاستجمام، ولو على القمم والسفوح وناب الخراب معظمها نتيجة هذا الإهمال عدا مارحم ربك من المدارس والمراكز الصحية التي تشرف عليها الوزارات التي تتبع لها والنظافة التي استبقت بلدية ظفار معداتها وبعض موظفيها وماعدا ذلك أهمل تمامًا.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن أمام هذا الوضع: إلى متى سيتم السكوت على كل ذلك من الجهات الرسمية المختصة لتلافي هذا الائتلاف التدريجي والهدر لهذه المكتسبات لنهضتنا والتي صرفت عليها المليارات في حينها حسب القيمة السوقية الحالية للملايين التي صرفت عليها قبل خمسين عاما من الآن وترتب على كل ذلك بالتبعية هجرات سكانية أصبحت ملحوظة للمواطنين منها إلى مراكز الولايات أو مركز المحافظة حتى أصبحت المدارس فيها شبه خالية من طلبتها وكذلك المراكز الطبية وغيرها وزاد الضغط على مراكز الولايات.
الطرق التي تمت سفلتتها حينذاك أصبحت تعج بالحفر والشقوق مما يتسبب في حوادث وأعطاب للسيارات وكذلك إنارة الشوارع أصبح يتعذر معها الرؤية حتى نهارا بالخريف لكثافة الضباب رغم توافد مليون سائح يزورنها كل عام خلال فترة الخريف أما أصباغ مباني هذه النيابات والمراكز الإدارية فحدث ولا حرج فقد أصبحت ألوانها مرعبة.
إلّا أننا لكي لا نوصم بأننا ننتقد لمجرد النقد، سنجتهد لنقترح بعض المقترحات التى نرى بأنها ستسهم في بعض الحلول إذا ما أخذ بتنفيذها أو بعض منها على الأقل مع قناعتنا بأنَّ الجهات المعنية عنها أدرى منا بذلك وهي كالتالي:
- إيقاف المسورات العشوائية غير المرخصة فورًا ومنع أي توسع جديد فيها، مع التركيز على الرقابة والمتابعة الحثيثة من الجهات المختصة، وأن يكون مقرها في نفس هذه النيابات السابقة على الأقل، وليس في مركز الولايات الرئيسة، كما يحصل الآن، أما ترك الحبل على الغارب فسيصعب الحلول مع الوقت واتساع رقعتها.
- صيانة الطرق بهذه المناطق بصفة دورية والتعامل مع الإنارة الحالية باستبدالها بإنارة تتتناسب مع ضباب فصل الخريف.
- اختيار نوعية أصباغ للمراكز والمنشآت الحكومية تقاوم فطريات رذاذ الخريف أو طلائها كل فترة لتحافظ على استمرارية ظهورها بالمظهر اللائق والجمالي والحفاظ على هيبتها كمقار أجهزة الدولة.
- التركيز على التفتيش الصحي المنتظم فيما يتعلق بالمطاعم والمحلات الغذائية والتجارية الصحية عموما بأنواعها في هذه المناطق لكونها أصبحت محط زيارات الزائرين والسياح.
- ضرورة الاسراع باستغلال والاستفادة من هذه المنشآت العديدة والقيمة والتي تعد من موجودات الدولة المهمة، والعمل على استثمار هذه الثروة التي أصبحت مُهدرة ويكون ذلك في أمور واستخدامات كثيرة يفهمها ذوو الاختصاص.
حفظ الله عُماننا في ظل قيادتنا المتجددة الملهمة لما فيه الخير وخدمة وطننا المعطاء والمحافظة على مكتسباته.