التصَهيُن في الخليج.. وارتداده على الدولة الوطنية

 

د. عبدالله باحجاج

كما قال غيرنا سابقًا، ونجدده الآن حرفيًا "لم يعُد مُفاجئًا أن يخرج علينا شخص عربي اللسان، يُقيم الصلاة ويُؤتي الزكاة ويصوم رمضان ويؤدّي مناسك الحج والعمرة يُدافع عن الصهاينة ويُبرِّر جرائمهم في حق الشعب الفلسطيني".

وداخل منطقتنا الخليجية لم يعد ذلك مُستغربًا، وقد انكشف حجمهم في دولنا الخليجية بصورة مُتباينة، خاصةً بعيد استشهاد زعيم حركة "حماس" يحيى السنوار قبل أيام، فبرز شيوخ دين وكُتّاب وإعلاميون ومُغردون وصحف وقنوات ومواقع إلكترونية، تُظهر الولاء للصهاينة وتُبرز سردياتهم للأحداث، وتدافع عن جرائمهم وتبرِّرُها، وتُهاجم المُقاومة وتعتبرها "إرهابية". هؤلاء يتفننون في أكاذيبهم وأباطيلهم، غير عابئين بردود فعل مجتمعاتهم أو بالحقيقة التاريخية، وهي أن الصهاينة يحتلون فلسطين، وأن الشعب بمختلف انتماءاتهم الفكرية يقاومون المحتلين، وكل الشرائع السماوية والقوانين الدولية تُقِرُ لهم هذا الحق.

المصيبة أنَّ هناك الكثير من المواطنين المُلتزمين الخليجيين، قد تصهْيَنوا بالمجان، ربما دون أن يدروا.. ربما خوفًا من داخلهم، رغم أنهم غير مُلزمين بإبداء مواقفهم، فلو صمتوا لكان خيرًا لهم. وآخرون يقودهم تعصبهم الفكري إلى الاجتهاد المحدود النَّظر، فيُحمِّلون رجال المقاومة مُعاناة أهل غزة وشهدائها، وفي حالتهم نُرجِع موقفهم إلى نقص الوعي، فهم يعتقدون أنَّ طريق تحرير فلسطين وعاصمتها القدس مفروشة بالورود، وينبغي أن لا تسقط قطرة دم واحدة! أو ننتظر حتى يأتي الله بقوم غير "حماس" لتُجاهد المُحتلين. هنا نُذكِّرُهم بأنَّ الجزائر مثلًا لم تحصل على استقلالها إلّا بعد استشهاد مليون ونصف المليون شهيد، فهل نُحمِّل رجال التحرير الجزائريين الوطنيين الأحرار مسؤولية الملايين من الشهداء؟

لقد ابتُلينا بهكذا وعي، وهو لا يعنينا هنا، وإنما أولئك الذين أصبحوا أداةً لصناعة الكذب وإكراه فكرة المقاومة، والاستعاضة عنها بالتسليم والاستسلام بالأمر الواقع، ولم يعلموا أن فلسطين أرض رباط وجهادٍ ليوم الدين، وأنها أرضٌ مُقدَّسة تُميِّز الحق من الباطل، وأهل الجنَّة من أهل النار.. لم يعلموا أنَّ استشهاد السنوار يأتي في إطار مسيرة استشهادية بدأت منذ عام 1948، ولن تتوقف سوى بالنصر المُبين، وهذا النصر النهائي ليس في حقبة السنوار، وإنما في حِقَبٍ قد تكون طويلة أو قصيرة، لكنها من المُؤكد أنها آتية لا محالة، وأن القيادات الجهادية والمجاهدين لم يتأسسوا على أنهم مفاتيح النصر النهائي، وإنما على غاية الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.. تربوا على أنَّ الموت واحدٌ، وفي وقت معلوم؛ سواء كان بمرض أو فوق الفراش أو بحادث سيارة أو في ساحة الجهاد؛ فأيُ ساحةٍ سيختارون وهم في أرض الرباط والجهاد؟ لقد اختارهم القَدَرُ قبل أن يترك لهم الخيار، وربط على قلوبهم بالشجاعة والبسالة وعزيمة الاستشهاد وإضافة مفصل في مسيرة النَّصر الحتمية.

وكيف للمُتصهْيِنِين أن يعلموا تلكم الحقائق مثلنا؟ وهم لم يدرسوها في مدارسنا ولا جامعاتنا، فهم صناعة الفكر الغربي، ويُوظَفُون على هذا الاعتبار؛ لذلك كان اختراقهم سهلًا، وقضية هُويَتهم محطَ بحثنا كثيرًا؛ لأننا لا نتصور أن يكون هناك من ينتمي لديموغرافيتنا الرصينة ويُحتضن ويُحتوى بدفء مشاعرها وعواطفها، ويؤسَّس بمرجعية أوطانها الإسلامية، ثم يتصهْيَن ويُجاهِر به نهارًا، مثل ما يجاهرون به. فمن هم إذن؟!

لقد حاولنا أن نبحث في سيرة الكثير منهم، وبعد تعبٍ وإرهاق التفكير، سلَّمنا بمقولة الصحفي المصري وائل قنديل عنهم، عندما وصفهم بالقول: "أظن أنَّهم صهاينة مُستعرِبون كانوا مزروعين بيننا في غفلة مِنَّا"!!

هؤلاء المُتَصَهْيِنون ماذا سيكون موقفهم الآن من قضية "إسرائيل الكبرى"؟ وقد كشفت العديد من المصادر أنها ستمدد إلى نحو 3 أو 4 دول عربية وأجزاء من دولة خليجية! مع من سيقفون؟! وماذا سيكون موقف الدول التي خذلت غزة وهي الآن مُستهدفة؟ لنعتبر بوضع دولة عربية حليفة تاريخية للكيان الصهيوني تعيش الآن في قلق وجودي مُرتفع من الصهاينة، ويقول أحد شياطينهم الكبار ويُدعى إيدي كوهين "إنهم بإمكانهم احتلالها بدبابتين فقط"!

وينبغي أن نأخُذ ما يجري في دولة مغاربية ببُعد النظر والإسقاط الخليجي معًا؛ حيث تشهد موجة مُطالبات من يهود يدعون أنَّ لهم أملاكاً فيها، بينها منازل لمواطنين يقطنونها منذ أجدادهم، وقد تمكن الكثير من اليهود من الاستيلاء عليها رغم معارضة شعبية، وبموافقة السلطات المحلية، كيف نسقط هذه الواقعة على بلدننا الخليجية؟

الدور قد يكون آتيًا على الخليج، ونستطيع أن نستشرفه من إقامة كيان لليهود تحت مُسمى "رابطة المجتمعات اليهودية في دول الخليج العربية"، وقد كشفت عنها وزارة الخارجية الإسرائيلية، وقالت إن الرابطة ستلتزم بنمو وازدهار الحياة اليهودية في دول الخليج الستة، وإنها ستضم يهودًا من هذه الدول.

ومما تقدَّم نجد هناك ربطًا أو ارتباطًا بين أهداف الصهاينة الاستراتيجية في الخليج، وبين اختراق الكثير من نُخبها الذين يظهرون الآن مُتصهيِنين أكثر من الصهاينة أنفسهم؛ بل هم الأخطر؛ لأنَّ مشروعهم تغيير الأفكار والسيطرة على عقول الشباب. ونُعبِّر هنا عن الخوف من التحوُّلات المالية والاقتصادية وفتح الأبواب الخليجية على الانفتاح الفكري والآيديولوجي والديموغرافي؛ فهي توفر كل مُقدمات الاختراقات البنيوية؛ أي داخل البنيات الاجتماعية؛ إذ لن تحافظ على المجتمعات المستقرة، فكيف سيصمد الفقير والعاطل عن العمل طويلًا أمام إغراءات المال الصهيوني؛ سواء المباشرة عبر "رابطة المجتمعات اليهودية في دول الخليج العربية" التي أُنشئت قبل الحرب على غزة، أو من قبل مُتصهيني الخليج بسمومهم الفكرية؟

على كل دولة خليجية- حكومة ومجتمعًا- أن تطرح التساؤل العاجل جدًا: إلى أين؟ ليس من منظور ما يكشفه الصهاينة بصورة علنية عن أطماعهم التوسعية، وإنما من حيث أهدافهم داخل كل دولة، وينبغي أن تكون مرجعية التفكير الخليجي في ذلك التساؤل (القلق الوجودي) لشقيقة عربية لم يشفع لها تطبيعها معهم من شرور أطماعهم بحيث يفكرون بصوت مرتفع في احتلالها وبدبابتين!

وعلى المستوى الوطني، ورغم الحكمة العُمانية البالغة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، لكننا نخشى من المُحيط الجغرافي في منطقتنا وارتباطنا به بروابط تُلزِمُنا بالانفتاح عليه تلقائيًا.. فهل تُراجع هذه الروابط ضمن عملية مراجعة لخارطة الإكراهات المعاصرة؟!