يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"إن التاريخ بالنسبة لمعظم المؤرخين التقليديين، سلسلة أحداث لها علاقة خطية وسببية حدث (أ) يُسبِّب حدث (ب)، وحدث (ب) يُسبِّب حدث (ج)، إلخ". الكاتب المغربي لحسن أحمامة.
*******
صعبٌ أن تتحدث عن التاريخ دون ذكر المآسي والزوابع وبداياتها ونهاياتها، وإن كانت ما تزال ما زالت الحياة. تساؤلات كثيرة وبعضها عميق حول كيفية كتابة تاريخها، وبأي شعور، شعور المنتصر أم المتضرر من هذه المآسي، دعك عن قاعدة "التاريخ يكتبه المنتصرون"، لنكن في خضم الواقعية ونقف على تخومها، ونتجول في أركانها، ونستغرق في تحولاتها وأسبابها ومن ثم نتائجها.
مما اقتنعَ به عقلي أن لا حقيقة كاملة ولا كذبة كاملة، لا يمكن لأي مُتبحِّر في مسافات التاريخ وطرقه المتعرجة إلّا وارتفعت أفكاره فوق سقف الحدث، هنا أحدثك عمّن يحللون التاريخ ويبحثون في جوانبه، ويدققون على أطرافه.
لعل هناك تساؤل مُستحق: هل يجب على كاتب التاريخ كتابة كل شيء وأي شيء؟! بالطبع هناك نقل حرفي للحدث بغض النظر عن أية محتملات، نقل للحدث بكل جوانبه، هل ذلك هذا يعتبر تأريخًا، أم مجرد نقل؟
وماذا عن التاريخ وزوابعه ومآسيه والغموض في الأحداث، وهل هناك أحداث ضخمة ولم تؤرخ بسبب نقص المعلومات، أم بسبب تعاقب العصور دون تدوينها؟ ممكن جدًا أن هناك أحداث كبيرة لم تُدوَّن، لا تستغرب ذلك، تصوَّر أن الكتابة لم تكن موجودة في كل العصور، ما يتوفر الآن من إمكانيات لا تظن أنها كانت متوافرة في سابقات العصور.
كل مهتم بالتاريخ العربي القديم يعرف العرب البائدة، والعرب الباقية، من هم العرب البائدة؟ (1) هم الأقوام التي عاشت وانقرضت، وورد ذكر بعضها في القرآن الكريم؛ إذ قال تعالى: "كَذَّبَتۡ ثَمُودُ وَعَادُۢ بِٱلۡقَارِعَةِ * فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهۡلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٞ فَأُهۡلِكُواْ بِرِيحٖ صَرۡصَرٍ عَاتِيَةٖ" (الحاقة: 4-6).
أي لولا ذكر الله لما علمنا عن قوم ثمود وعاد، وكذلك عن إرم ذات العماد، وعن مَديَن، وقوم لوط، وقوم صالح. ثمّة تساؤل: هل لو لم تُذكر بالقرآن الكريم سيعرف عنها البشر شيئًا؟
أتذكرُ أني كنت أتجول بإحدى المدن، وأحد شوارعها يضم محلات كثيرة لبيع الكتب، وبكل اللغات، وكل أقسام المواضيع، مسموحها وممنوعها، تصفحت فهارس أكثر من كتاب، وكنت أُحدِّثُ نفسي: هل بالفعل كل هذه الأطنان من الكتب قد كَتَبَتْ التاريخ الحقيقي ولم ينقصها أي تاريخ؟ هل بالفعل قد كُتب ودُوِّنَ التاريخ منذ عهد آدم عليه السلام حتى اللحظة؟ بالطبع كنت أقصد الكتب التاريخية، كنت وما زلت أعتقد بعجز الإنسان عن تدوين كل شيء، لماذا؟ لأنه ليس كل ما يُعرف يُقال، وتحت هذه العبارة ضع ألف خط!
كانت الحرب العالمية الأولى والثانية، وفي منطقتنا العربية اتفاقية "سايكس بيكو" الشهيرة، وما حدث بعدها من تخطيط بالقلم والمسطرة لحدود كثير من البلدان، تصور يجلس إثنان (بريطاني وفرنسي) على طاولة، ويخططان حدودًا لدول عربية لا أصل لهما وفصل ولا عرق، ووفق ما يرونهما مناسبًا لهما، وتلتزم الدول المحددة بالحدود من قبل البريطاني والفرنسي بهذه الحدود وتعتبرهما حدودًا قومية غير قابلة للمس!
لا شك أن ما مضى مضى، ونحن أبناء اليوم، ولعل ما حدث على هذه الطاولة وتم تخطيطه وتتفيذه خيرًا لأمم لا تمتلك إمكانات ولا قوة ولا قدرة إبان تلك الحقبة التاريخية، على الأقل علم كل من يهمه الأمر قسمه وميراثه، وبلا حروب ولا حملات حربية، ولا تحركات مخلة بالأمن. يُعلِّمُنا التاريخ في بعض صفحاته أن العدو العاقل خيرٌ من صديق جاهل!
التاريخ السياسي يختلف عن التاريخ العلمي والاجتماعي والمعرفي، مهما حاول الكاتب الكذاب تزوير التاريخ يكشف مع مرور الوقت، والمدونون والمؤرخون يكتبون في كل زمان وكل مكان، من كتب مفردة عن قضية ورحالة ومذكرات وتراجم، وبها يكتشف المؤرخ الصدق من الكذب، لأن إطلاق الأحكام بشكل عام يضر في كل فن، هنا يتعين على قارئ التاريخ أو الباحثين التيقن والرؤية البعيدة في تفسير وتحليل الحدث.
التاريخ كان وما يزال وسيستمر في إثارة الزوابع والمنغِّصات، ولعل هناك من يفهم، ولعل هناك من ينطبق عليه المثل الكويتي: "قال انفخ يا شريم قال ما من برطم"!
***
- العرب البائدة: الأقوام التي عاشت ثم انقرضت، والعرب الباقية هم العرب العاربة والعرب المُستعرِبة.