خالد بن سعد الشنفري
أمور تتردد على مسامعنا مع كل موسم خريف مثل ندرة الكزاب في السوق ورداءة المعروض منه من حيث الحجم والطعم فلا يتذوق شرابه ولا يحتوي على لب يؤكل وقد اتسعت رقعة هذا التذمر والاحتجاجات تدريجيًا مما جعل من مشهد الخريف يبدو ناقصا بلا كزاب وهذا المشهد حقيقة ليس بجديد ويحدت منذ سنين ويتفاقم بين ظهرانينا وأمام سمعنا وبصرنا عاماً بعد عام وكأنه لا يعنينا لا مسؤولين سواء عن الزراعة أو السياحة أو التجارة أو كمجتمع للأسف مغلوب على أمره ولا أحد يسعى للقضاء على هذه المشكلة.
في هذا الموسم زاد الطين بلة كما يقال وادخل على المشهد مصطلح آخر جديد ألا وهو اختفاء الكزاب تمامًا من كل أكشاك بيعه التي أصبحت مقصد أي زائر لظفار لأنه ببساطة مع اللبان يمثلان أيقونة ظفار ولا تكتمل زيارتها إلا بهما وقد حلت محل الكزاب في أكشاك بيعه هذا الموسم أكياس وخيش بلاستيكية رديئة ترفضها طبيعة هذه الأكشاك التي وجدت لتسويق منتجات ظفار الزراعية الاستوائية المميزة والتي على رأسها بالطبع الكزاب بأنواعه إضافة إلى الموز والفافاي والبيذان وقصب السكر و"الشيكو"... إلخ.
شوهت هذه الأكياس منظر الأكشاك هذا الموسم بما تحويه من نارجيل يابس (جارز) يستعمل كمبشور في نارجيل وماؤه غير مستساغ للشرب وبدأ التجار الآسيويون هذا الموسم في استيراده من بلدانهم بكميات كبيرة وتسويقه لزوارنا وضيوفنا على أنَّه المشلي لتعويض النقص الحاد في إنتاجنا وغدا سيسوقونه لنا كبديل عن كزابنا لينطبق علينا بالتالي المثل المصري القائل؛ (بيبيع الميه في حارة السقايين) بديلا عن ماء كزابنا العذب الزلال الذي لا أجد وصفاً لها خيراً من وصف السلطان الراحل سعيد بن تيمور: في قصيدته في ظفار:
وشرب كزابة وخلو بال
ومجة ماذق تودي ببرد
لذا كنت أمكث في ظفار
لكي أنسى بما في القلب عالق
لطالما كانت نخلة النارجيل تاريخيا رمزا وقيمة مضافة لظفار أسوة بتوأمها شجرة اللبان فماذا حصل لها اليوم؟!
ذكر الرحالة ابن بطوطة قبل أكثر من 700عام أن النارجيل في ظفار كانت تقوم عليه صناعة رائجة واقتصاد نشط وكان عسل النارجيل يصدر الى الخارج بكميات تجارية، وبدون التوغل في الماضي يكفي هذه النخلة أنها كانت إلى زمن قريب تدخل في أسقف كل بيوتنا (القبال) ودعامات الحوائط والأبواب والنوافذ كذلك في معظم طبخاتنا وحلوياتنا وزيوت طهينا ومن ألياف كزابها ننسج حبال سنابيق وقوارب الصيد والضاغية وشباكها العظيم وكل شيء تقريبا في حياتنا تجد نخلة النارجيل خلفه.
اليوم وبعد أن اكتفينا (مؤقتا) عن معظم مهامها تلك ظلت كماهي باقية شامخة رغم تنكرنا لها وعجزنا حتى عن الاهتمام بها وحمايتها من آفات وأمراض عصرنا أو الاهتمام حتى بأبسط شؤونها ليستمرعطاؤها ولو بتزويدنا وزوار خريفنا بماء كزابها وهذا أضعف الإيمان.
أما عن موضوع إكثار زراعتها والتوسع فيه فهاجس يئسنا من الحديث عنه وأصبح الحديث عنه يضيق الصدر فعلاً، لم نعد نطالب سوى بتهيئة وتنظيم الموجود منها حتى لا ينضب ماؤها المكنون عنا، ذلك الماء الذي لايخرج من الأرض ولا ينزل من السماء فقط هي من تتولى إنتاجه وكذا لبها الطيب اللذيذ لتشعر زوار خريفها بالطريقة الخاصة لها وترحب بهم وتشعرهم أنهم وصلوا ظفار.
قصة إهمالنا لهذه النخلة بدت معنا منذ زمن طويل وتركناها تستفحل وتتفاقم عامًا بعد عام حتى وقع الفأس في الرأس كما حصل هذا الموسم وقد سبق لي أن كتبت مقالا تحذيريا قبل عدة سنوات بعنوان (نخلتي عُمان) أتذكر من ضمن ما أشرت إليه فيه أن هذه الشجرة المباركة (النارجيل) تعتبر الوحيدة على مستوى العالم التي ينتج منها أو تقوم عليها أكثر من 100 منتج وصناعة ومعظمها قيمة ونادرة وأن بعض الدول الآسيوية القليلة التي تقوم بزراعتها تتبع مراكز بحوثها لأعلى سلطة فيها كرئاسة الدولة أو مجلس الوزراء (كما في سيرلانكا مثلا) لأهميتها فماذا فعلنا نحن تجاه نخلتنا ولو من باب الوفاء ورد الجميل ولكننا مع كل ذلك سنستمر في التذكير بها حتى يقيض الله لها من أبنائها مخلصا.
استبشرنا خيرا في تسعينيات القرن الماضي بخبر قيام وزارة الزراعة بدراسة جدوي لاستزراع 100000 نخلة وإقامة مصنع لجميع مشتقات النارجيل الرئيسية عليها من زيوت ومبشور وغيرها وأثبتت الدراسة جدوى المشروع الاقتصادية والتجارية ولكنه تلاشى فجأة بعد ذلك مثلما تلاشى بعده مشروع زراعة "البُن" في جبال ظفار وبعد أن تم استقدام خبراء في زراعته من اليمن الشقيق وأثبت نجاح التجربة وجدواها وصرفت على ذلك مبالغ طائلة وسكت بعد ذلك طويلا عن أمر المشروعين تماما حتى أتت اللفتة الكريمة من لدن السلطان قابوس -طيب الله ثراه- باستزراع مليون نخلة تمر وتخصيص 100000 نخلة منها لزراعة نخلة النارجيل في ظفار لزيادة المنتج منها وإمكانية إقامة صناعة عليها وبينما تقدم موضوع نخلة التمر ومضى قدماً وتم استزراع أكثر من 700000 نخلة من المليون إلى الآن إلا أن موضوع استزراع 100000 نخلة نارجيل في ظفار توقف في مكانه وكأنها لعنة أو عين شريرة تطارد هذه النخلة.
وبعد مضي سنوات عجاف تم تسوير أرض بجنوب المعمورة قيل إنها لغرض استزراع 50000 نخلة نارجيل وتنفس الجميع الصعداء من جديد وعاد الأمل، إلّا أن الأرض المشار إليها يبدو بالنظر لمساحتها الصغيرة بأنها لن تستوعب أكثر من 20000 نخلة بالكثير كما أن لوحة جنائن صلالة العملاقة التي وضعت على سور المشروع كتب عليها (تطوير الزراعة السياحية) ونحن وإن كنَّا لا نعرف ماهو المقصود بالزراعة السياحية إلا أنه نما إلى علمي بعد السؤال بأن التركيز فيها لن يكون على زراعة النخيل في حد ذاته وإنما هو مشروع سياحي بحت أكثر منه مشروع زراعي !! يا سبحان الله حرقنا بأنفسنا سياحتنا الخريفية بإهمال نخلة النارجيل حتى اختفت ثمرته من أسواق صلالة والذي يعتبر أحد أهم أيقونات السياحة في ظفار ونبحث الآن خارج الصندوق عن مسمى جديد وعجيب (تطوير الزراعة السياحية).
أخيرًا.. تعبنا عن الكلام المباح في نخلة النارجيل بعد أن أدرك شهرزاد الصباح في الحديث عن نخلة النارجيل وكزابتها ولم يعد لنا من قول في ظل انعدام حتى رؤية مستقبلية قريبة لاستزراع هذه النخلة من جديد (علما بأنها تحتاج لسبع سنوات منذ غرسها حتى تثمر) أي سيكون جيل كامل منَّا في عمان قد قضى نحبه أو نسي شيء اسمه كزابة ونخلة نارجيل.
لم يبق لنا من قول بعد كل ما سبق الإشارة إليه في تلافي انقطاع الكزاب عن زوار ظفار في موسم خريفها القادم 2025 إلا أن تتفق الثلاث جهات الرسمية التي تمتلك ما نسبته 80٪ من نسبة نخيل نارجيل ظفار وهي وزارة الزراعة وبلدية ظفار ومزارع الديوان على تنظيم وتقنين بيعه والرقابة الحازمة على الشركات الثلاث المحتكرة شراءه وتسويقه في الخارج والداخل مع الموز والفافاي (شركات لوبي آسيوي) (تجارة مستترة) مع ضرورة منع خروجه من مركز حريط طوال فترة الموسم وأن تكف حماية المستهلك في ظفار من غلوائها في حماية المستهلك لدرجة الضرر به وبالمنتج معاً ولتترك سوق الكزاب في موسم الخريف يحدده العرض والطلب والأهم من ذلك كله ضرورة تفعيل المكافحة والرش لأي آفة زراعية أو مرض يصيبها (ليس كما حصل على استحياء قبل موسم الخريف الحالي).
في الختام نسأل الله التوفيق والسداد لما فيه خدمة عماننا الحبيبة وشعبها بما يحبه ويرضاه.