الراحل أحمد بن يوسف الحارثي.. مهنية في أداء العمل

 

د. علي بن أحمد العيسائي

أول معرفة لي بالمرحوم أحمد بن يوسف الحارثي، كانت عندما دخل عليّ فجأة في مكتبي بوزارة الخارجية عام 1987، وسألني عن مكتب رئيس الدائرة العربية، فوقفتُ وأشرتُ إلى الباب المقابل تمامًا لمكتبي، ولم أكن أعرف الرجل، فأنا ما زلتُ حديث التعيين في وزارة الخارجية، لا أعرف شخوصها، وهو أيضًا لم يكن يعرف مبنى وزارة الخارجية الجديد الذي افتُتِح عام 1985؛ إذ كان في الخارج سفيرًا لسلطنة عُمان لدى المملكة المغربية.

كان الفقيد- رحمه الله- يومها قادمًا لاستلام منصبه الجديد رئيسًا للدائرة العربية؛ ليحل بدلًا من السفير عوض بن بدر الشنفري الذي نُقِل ليكون سفيرًا للسلطنة في واشنطن.

تلك الصدفة العجيبة- التي جعلتني أول من تقع عليه عينه في الدائرة التي سوف يرأسها لفترة طويلة وجعلتني أول من استعان به- طبعتْ العلاقة بيننا، والتي استمرت رسميًا حوالي 28 عامًا، إلى أن عُيِّن عضوًا في مجلس الدولة وكُلفت مكانه بالقيام بعمل وكيل وزارة الخارجية للشؤون الدبلوماسية في عام 2015. أما شخصيًا فقد استمرت العلاقة إلى يوم وفاته مساء الأربعاء 14 أغسطس 2024.

كانت من أوائل مهامه بعد استلامه رئاسة الدائرة العربية، متابعة العلاقات العُمانية السورية، وقمة مجلس التعاون الثامنة، فقد ترأس في ديسمبر 1987 معالي الوزير يوسف بن علوي- بتوجيهات من المرحوم السلطان قابوس بعد لقائه الخاطف بالرئيس السوري حافظ الأسد في القمة العربية بعُمان- وفدًا ضم وكيل وزارة الخارجية يومها (حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه) والسفير الحارثي، وسكرتير معاليه السفير محمد شالواني وكاتب هذه السطور. وتم على إثر هذه الزيارة إقامة العلاقات الدبلوماسية بين عُمان وسوريا وتم الاتفاق على تعيين سفير لكلا البلدين لدى البلد الآخر، ومن ثم حضور القمة الثامنة لمجلس التعاون التي عقدت في الرياض في 26 من نفس الشهر.

ومن عجائب الصدف أن من أواخر الأعمال الرسمية التي قام بمتابعتها- رحمه الله- الجهود لحل الأزمة السورية على إثر زيارة معالي الوزير يوسف بن علوي لدمشق في أواخر شهر سبتمبر، والتحضير للقمّة 36 لمجلس التعاون في ديسمبر عام 2015 بمدينة الرياض، والتي أكملتُ أنا شخصيًا متابعتهما من بعده.

التحق- رحمه الله- بوزارة الخارجية في بدايات النهضة، وقد ارتقى في المناصب، فقد كان قائمًا بالأعمال في طهران ثم عين سفير في الكويت بعدها سفيرًا في الهند وسفيرًا في المغرب، قبل رجوعه استلامه رئاسة الدائرة العربية في الوزارة ومن ثم وكيلًا للشؤون الدبلوماسية.

ومُنذ عام 1987 إلى حين تعيينه عضوًا في مجلس الدولة، لم يكن هناك حدث سياسي أو عمل دبلوماسي تقوم به وزارة الخارجية إلّا كان للمرحوم دورٌ فيه، ابتداءً بالعمل الخليجي المشترك وما ارتبط به وبالأخص بعد عام 2011 مثل الاتحاد الخليجي، والخلافات الخليجية- الخليجية، ومقترح ضم الأردن والمغرب للمجلس، وعلاقات المجلس بإيران واليمن وسوريا وليبيا وغيرها الكثير، مرورًا بالعمل العربي مثل عودة مصر إلى الجامعة العربية بعد معاهدة كامب ديفيد، وإعلان دمشق، والاحتلال العراقي للكويت، والخلافات العربية العربية، والعلاقات العربية مع دول الجوار والغير، وبالذات بعد أحداث ما يُطلق عليه "الربيع العربي"، وانتهاءً بالعمل الإسلامي وتفاعل السياسة الخارجية العُمانية في الشأن الدولي.

كان جهد الوكيل الحارثي- رحمه الله- متعدد سواء في التحضير للمؤتمرات وفي المشاركة فيها وتمثيل السلطنة في كثير منها وإعداد المحاضر لكل هذه الاجتماعات والمشاركة في لجان صياغة القرارات والبيانات ثم رفع التقارير والآراء عنها، واقتراح السياسات والمواقف العُمانية حول كل هذه القضايا. وكنت معه في كثير منها بصفتي احد مرؤوسيه في البداية ومن ثم رئيسا لدائرة مكتب الوزير، ودائرة مجلس التعاون.

وبينما كنت أنا- كدارس للعلوم السياسية- مُهتمًا بالنظريات السياسية ومناهج التحليل السياسي ودراسة آثار كبار السياسيين مثل بسمارك وكيسنجر ومحاولة تطبيق ذلك لفهم هذه الأحداث ومآلاتها، كان هو فاهمًا للطبيعة البشرية فهمًا عميقًا وقارئًا للتاريخ العُماني وسير العرب وآدابهم وأقوالهم وتاريخهم، والتي كانت تقدم تحليلًا منطقيًا للوضع وما سيؤدي إليه أفضل من تلك التحاليل التي لديّ.

وأتذكرُ في إحدى المرات بعد مناقشة أحد المواضيع المُهمة، أوجز للوزير ذلك الموضوع ببيتين من الشعر تمثل قسمة بين إعرابي وصاحبه:

"منك الدقيقُ ومني النَّارُ أوقدُها // والماء مني ومنك السَّمنُ والعسلُ"

فكان البيتان أبلغ وأدق في التعبير لتفسير ذلك الحدث عن المناهج السياسية التي درستها كلها.

وعن موضوع آخر فقد أوجز ببيت شعر آخر يقول:

"لقد هزلت حتى بدا من هزالها // كلاها وحتى سامها كل مفلسِ".

وعن حدث آخر ذكر بيت شعر لنصر بن سيار عن قرب نهاية حكم بني أمية:

أرى تحت الرماد وميض جمر // ويوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تُذكى // وإن الحرب مبدؤها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم // يكون وقودها جثث وهام

وفي اجتماع من الاجتماعات المُهمة التي كان يرأس وفد عُمان فيها، اشتد النقاش حول أحد المواضيعـ فما كان منه إلّا أن حكى قصة الأعمى والخليفة- وقد كان الفقيد بارعًا في السرد- مُلخَّصُها أن "أعمى دخل على الخليفة، فبدلًا من أن يُعطيه الخليفة مبلغًا ويصرفه، سأله عمَّا يُريد، فطلب الأعمى كلبًا، فقال الخليفة أعطوه كلبًا، ثم عاد بعد فترة وقال للخليفة أنا كنت وحيدًا أستطيع أن أتدبر أمر طعامي، لكن من سيُطعم الكلب؛ فطلب جاريةً، فأمر له الخليفة بجارية، فعاد مرة ليسأل حصانًا لتنقله والجارية، ثم عاد ليطلب بيتًا يأويهم، ثم بستانًا ليعتاشوا منه"، فأردف أن مثل هذا الطلب المطروح في الاجتماع هو كطلب الأعمى من الخليفة للكلب؛ إذ ستتبعه مطالب لا تنتهي، والأولى أن لا نُقدِم على شيء لا نعلم إلى أين سيوصلنا، ولم يكن بعد ضرب المثل، داعٍ للنقاش لإقناع المجتمعين بوجة نظره، ووجهة نظر عُمان حول الموضوع.

وكان رحمه الله يتعامل بمهنية في كل أعماله السياسية منها وغيرها، فقد كان عضوًا دائمًا في لجنة السلكين الدبلوماسي والقنصلي، وكان ينظر للموظفين وتنقلاتهم وترقياتهم لما فيه مصلحة العمل والموظف، ولم يكن من الذين يتعاملون مع موظفي الوزارة، على قاعدة "هذا من شيعتي وهذا من عدوي".

وكان الراحل يحظى بتقدير كبير ليس من العاملين في وزارة الخارجية فقط، لكن من كل الوفود العربية والخليجية وعلى رأسهم وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، وبالذات المرحوم الشيخ الأمير صباح الأحمد الصباح منذ أن كان وزيرًا لخارجية الكويت ثم أميرًا لها، والذي كان يرحب به باسمه الأول أحمد، والمرحوم الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الأسبق. وكان كثيرًا ما يتحدث بشعرٍ أو بابتسامةٍ أو بمقولةٍ من مقولات العرب، وسط الاجتماعات العاصفة لوزراء الخارجية بدول مجلس التعاون، والتي كانت تُبهجَهُم.

ولقد لمستُ هذا الاحترام شخصيًا؛ ففي عام 2011، عندما تسلّمت سلطنة عُمان رئاسة المجلس الوزاري العربي، بعث معالي الوزير يوسف بن علوي برسالة خطية إلى الأمير سعود الفيصل لاقتراح التنسيق مع المملكة العربية السعودية حول القضايا العربية المطروحة، وطلب من المرحوم الوكيل الحارثي ومنِّي- كرئيس دائرة مكتبه- نقل تلك الرسالة للأمير سعود الفيصل، وكان ترحيب الأمير يتسم بالتقدير البالغ والاحترام العالي للمرحوم، فقد استقبلنا في بيته بكرمٍ لافتٍ ودارَ الحديث عن الأمور الرسمية، ثم انتقل لحديث ودي وحميم بينهما.

وعند وفاة الأمير سعود الفيصل- رحمه الله- كان الوكيل الحارثي أحد المدعوين عندما عُقِدَت ندوة في الرياض عن حياة الأمير.

أما على المستوى الشخصي، فلقد كان- رحمه الله- رجلًا نقيًا تقيًا لا يحمل حقدًا أو غلًا لأحد، عالمًا بالشريعة، حافظًا للقرآن، وكان إمامًا لنا في أسفارنا الكثيرة، حتى إنني حفظت بعض الآيات خلفه في الصلوات؛ إذ كان رحمه الله مُفضِّلًا لبعض الآيات من القرآن الكريم مثل الآيات الأخيرة في سورة مريم. وفي إحدى سفراته مع معالي الوزير يوسف بن علوي إلى أوزباكستان، حضروا صلاة الجمعة في أحد مساجد العاصمة، وطلب المصلون منهم إلقاء خطبة الجمعة؛ فما كان منه إلّا أنه اعتلى المنبر وخطب.

وكان أنيقًا في ملبسه ومظهره، مُحبًا لكل ما هو جميل، ويستمتع بكل متع الدنيا الحلال، حاضرَ الذهن، سريع البديهة، حلو الكلام، بليغ اللغة، وصاحب نكتة.

ومن صفاء سريرته، أتذكرُ موقفًا لي معه؛ إذ عند بلوغه سنّ الستين تم التمديد له لخمس سنوات، وعند اقتراب نهاية فترة التمديد، وكنت حينها رئيسًا لدائرة الموارد البشرية، ذهبتُ إليه لأنبهه لذلك، وما هي إلّا فترة بسيطة، وتم تعينه وكيلًا لوزارة الخارجية للشؤون الدبلوماسية، فاعتبر تنبيهي له نوعًا من حُسن الطالع له بالمنصب، بينما عندما قمتُ بمثل هذا الإجراء لغيره من مسؤولين، اعتبروا ذلك إهانة وغضبوا مني!

وحين بلغني خبر وفاته، كم أحسستُ بالأسى على فراق شخص أحببته وعاشرته.

رحم الله أبا الخليل رحمةً واسعةً، وأسكنه فسيح جناته، وخالص عزائي لأسرته الكريمة، الخليل وإخوانه ووالدته وجميع مُحبِّيه.

"إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ".

تعليق عبر الفيس بوك