عودة الماضي.. مهما كانت العودة!

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

الحديث عن كنوز ظفار التراثية والثقافية وموروثها؛ سواء كان تراثًا ماديًا أو معنويًا، مرويًا أو مرئيًا، وإحياء ذلك مع كل موسم خريف؛ حديث ذو شجون وحنين، والنفس البشرية ترنو في لحظات الجمال لاستشعار ماضيها الجميل أو ما اصطلح على تسميته مُؤخرًا "زمن الطيبين".

لفتت انتباهي فعاليات "عودة الماضي" في الحافة التراثية للموسمين الماضيين 2022 و2023 وقد أفردتُ لهما مقالين؛ الأول: بعنوان "عودة الماضي عودة الروح" في جريدة الرؤية (بتاريخ 12 ديسمبر 2022)، والثاني بعنوان "يوم في عودة الماضي" (بتاريخ 20 أغسطس 2023).

وقد قررت لجنة مهرجان خريف ظفار هذا العام نقل فعاليات "عودة الماضي" لموسم 2024 من موقعه السابق في منطقة الحافة، من أنموذج حي من تراث ظفار المعماري، علاوة على موقعها المميز على شاطئ بحر العرب "بندر ظفار التاريخي" وبمحاذاة قصر الحصن العامر غربًا وحصن البليد التاريخي شرقًا وكذلك سوقها التاريخي "سوق العرصة قديمًا" سوق شاطئ الحافة حاليًا.

لا شك أنه كان للمكان دورٌ وسحرٌ في تجسيد الحدث، وقد تكفلت أطلال الحافة بنقل الماضي لزواره؛ فالإنسان ومشاعره كلٌ لا يتجزأ، وليس هناك ماضٍ نعيشه بمعنى الكلمة بمعزل عن حاضرنا، ولا مستقبل أيضا؛ بل الإنسان هو اللحظة التي يعيشها الآن ويحق له أن يجتر الماضي أحيانًا للخروج من اللحظة المُعاشة مؤقتًا أو يحلم ويتخيل المستقبل أحيانًا.

يمكننا القول إنَّ لحظات اجترار الماضي بكل إيقاعاته المُريحة عادةً للنفس البشرية، قد تحقق بيُسرٍ ونجاح في موقع منطقة الحافة في الموسمين السابقين، وعلى مدى 45 يومًا في كل عام هي فترة هذه الفعاليات، وانعكس ذلك بالتالي إيجابًا ليس على زواره ومريديه وحسب؛ بل أيضًا على المشاركين في فعالياته من الشباب الظفاري، الذين تقمصوا الماضي باقتدار في اداء فعالياتهم المتنوعة. وقد لوحظ ذلك بجلاء على أدائهم وذلك لسبب بسيط ألا وهو أنهم كانوا وسط إطلالات هذا الماضي، المُتمثِّل في بيوت وقصور الحافة التاريخية التي احتضنت الموقع وزواره، كما ساهم كذلك بفعالية الشواطي الفضية لبحر العرب من الجنوب، وصاحب الحدث بأصداء موسيقى هدير أمواج خريفهِ التي لا تهدأ في الخريف، وتنثر عبق روائح اليود وزبد البحر الزكية؛ فتشرح الصدور.. إنها بانوراما طبيعية.

كان فعلًا منظرًا بديعًا عشناه في الموسمين السابقين، عشناه وتعلقنا به، وعاشه معنا زوارنا من مختلف محافظات عُماننا الحبيبة ودول جوارنا الخليجية الشقيقة.

لقد بُذِلَت جهود مشكورة مُقدرة من القائمين على خريف ظفار في بلدية ظفار وعلى رأسها سعادة الدكتور رئيس البلدية، من أجل إعداد وتهيئة الموقع الجديد لعودة الماضي بالسعادة، وفي فترة زمنية قصيرة جدًا، وليس ذلك بغريب. فقد كان سعادته أول من أطلق مسمى "عودة الماضي"، وكانت له آمال في استمرار وتطوير هذا الجانب، كنَّا نترقبها في كل موسم خريف.

لا شك أن الكثيرين قد تعلقوا بالفعل بـ"عودة الماضي" في هذا المكان، وهذا أمر طبيعي ومُتوَقَّع، وبالتالي فإنَّ سماعهم خبر قرار نقله إلى منطقة السعادة انعكس عليهم سلبًا في بداية الأمر، وهذا أمر متوقع، غير أن الموقع الجديد لعودة الماضي في منطقة السعادة اتضحت فوائده بعد ذلك شيئًا فشيئًا على أرض الواقع، من حيث السعة في المكان الذي سمح بالتوسع في الفعاليات واستيعاب فعاليات أكثر، وقد تجلّى كل ذلك بالفعل على أرض الواقع منذ الأيام الأولى، والمتمثل في توسعة المواقع الرئيسة الثلاث الحضرية والريفية والبدوية وكذلك البحرية وغيرها من الأنشطة بمساحات جيدة؛ مما قلَّل من التدافع والازدحام الذي حصل في السنوات الماضية. ومع كل ذلك لم يستفد حتى الآن من المساحة المسورة من الأرض المخصصة لذلك، إلّا في حدود الثلث فقط، مما يعني قابليتها للتوسُّع في المواسم المقبلة، لاستيعاب الأعداد المتزايدة من زوار خريف ظفار في كل عام، إضافة الى مواقف السيارات الشاسعة خارج أسوار الموقع، ومن الجهات الثلاثة للموقع ببوابات متعددة لتسهيل انسياب الدخول والخروج، كما جرى نصب مُجسَّمات كبيرة داخل أرض "عودة الماضي" نراها لأول مرة في ظفار، نفخر ونعتز بها؛ كقلعة نزوى التاريخية، وبوابة مسقط، وفنار صور العفية، وغيرها، كما أُضيفت أنشطة جديدة لثلاث محافظات، وما زال بالأرض متسع لإضافة محافظات أخرى في السنوات المقبلة؛ بل وأتاحت الفرصة لمواقع لبعض الأقطار الخليجية الشقيقة التي ترغب في المشاركة.

يبدو أنَّ التصور القادم لعودة الماضي مستقبلًا ألا يقتصر على تراث منطقة الحدث والمناسبة في ظفار كما كان سابقًا؛ بل ليمتد ليشمل عُمان كلها، وقد يضُم دول مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك للجذور والأصول والأواصر المشتركة بينها جميعًا في هذا الجانب، ولأن الجميع يقصد هذه الفعاليات الخريفية السنوية وأنها منهم وإليهم، مع التركيز بالطبع على كنوز ظفار (أرض الحدث) التراثية المميزة.

لقد كان قرار نقل مقر فعاليات عودة الماضي إلى السعادة فعلًا قرارًا ناضجًا وحلًا ناجعًا لا بُد منه، في ظل محدودية مساحة الموقع القديم بالحافة، ومواقف السيارات وأيضًا إشغالات سوق شاطئ الحافة وازدواجية شارع السلطان قابوس، ومؤكد أسباب أخرى، دعت إلى التَّحول نحو منطقة السعادة.

لم يغب بالطبع الموقع القديم بالحافة وأطلالها التاريخية وشواطئها الذهبية وأمواج بحرها الهادرة في الخريف عن أن تبقى حاضنًا رئيسيًا للأنشطة والفعاليات جنبًا إلى جنب مع موقع عودة الماضي الجديد بالسعادة، كما كانت سابقًا، ولم يتغير عليه سوى المُسمى فقط من "عودة الماضي" سابقًا إلى "سوق اللُبان" حاليًا؛ وهو اسم لا يقل أهمية وبريقًا عن سابقه؛ بل إنَّ اللُبان يعتبر الاسم الوحيد الذي يُجسِّد اسم ظفار وعُمان تاريخيًا منذ القدم، وما زال يمثل شعارًا والذهب الأبيض لعُمان بلا منازع.

"سوق اللُبان" لن يقتصر بطبيعة الحال على اللُبان ومشتقاته من بخور وعطور ومتعلقاتها؛ بل سيشتمل هذا العام على عرض منتجات الأُسر المُنتِجَة في الأماكن الجديدة التي خُصِّصَت لها، وإنها للمسة كريمة أخرى من بلدية ظفار أن أتاحت الفرصة لقرابة 300 أُسرة من الأسر المنتجة العُمانية، لعرض منتجاتها في هذا السوق الموسمي من كل عام، وتمت المحافظة على استمرارية كل الفعاليات والأنشطة، كما كانت عليه، للحفاظ على بريق ووهج المكان الذي اكتسبه على مدى موسمين سابقين.

كل الشكر لصاحب السمو السيد مروان بن تركي آل سعيد محافظ ظفار، وكذلك الشكر موصول إلى بلدية ظفار ووزارة التراث والسياحة وشرطة عُمان السلطانية، وكل من يُساهم في إنجاح موسم خريف ظفار، وهنيئًا لنا جميعًا في محافظة ظفار إدارة وإنجاح تنظيم توافد مليون زائر في الموسم الماضي 2023، وتوقع استقبال ما يربو على مليون ومائة ألف زائر هذا العام 2024.

كل موسم خريف وأنتم في خيرٍ وسعادةٍ.