عندما تتحرَّك الأشجار

 

 

سعود بن حمد الطائي

كانَ الضبابُ الكثيفُ المُنتشر على سُفوح الجبال على وشك أن ينحنِي أمام خيوط الشمس الذهبية الرقيقة؛ عندما وصل رسولٌ من الملك يحمل دعوة رقيقة للجنرال قائد المنطقة الشرقية للحضور إلى العاصمة للمثول بين يدي جلالته.

فَرِح القائد بمَقْدِم الرسول وأكرم مثواه، فقد كانت مهمته على وشك أن تبلغ غايتها بعد الانتصارات التي حققها على أعداء المملكة.

كان الطريقُ إلى العاصمة الملكية يمرُّ عبر غابة كثيفة؛ مُتداخلة الأغصان، مُوحِشَة في الليل، وكانت الرياح عندما تُعانق قممَ أشجارها تصدر أصواتا غامضة مخيفة، تشبه عواء الذئاب، يخشاها العابرون ويتجنبها السائرون إلا في جماعات وقوافل؛ مخافةَ أن تتحوَّل هذه الأشجار إلى أشباح.

ولكنَّ الجنرال لم يكن أمامه من بُدٍّ إلا أنْ يعبر هذه الغابة وحيدا في ذلك اليوم، وكأنه على موعد مع قدر محتوم، وعندما بلغ وسط الغابة، سمع أصواتًا مريبة تقترب منه، وشعر بريح قوية تعترض طريق حصانه؛ الذي جفل وتوقف عن المضي قُدُما، وصار يدور حول نفسه وَجِلًا من شيءٍ ما.

ترجَّل الجنرالُ من على ظهر حِصانه الخائف، وجرَّد سيفه، واتجه غير واجفٍ نحو مصدر الصوت، وفجاة أخرجت الأرض مالها وإذا بامرأة عجوز تحلج القطن، فقبض على سيفه بقوة وهَمَّ أن يقطع رأسها؛ لكنَّها فاجأته بقولها: "أيها الجنرال، سوف تصبح قائدا للمنطقة الغربية، ومن ثَمَّ ملكا قديرا". فتراجع الجنرال خطوتيْن إلى الوراء، وقال: "أيتها الساحرة الشرِّيرة، إنني جنديٌّ مخلص للملك؛ فلا تقولي ذلك مرة أخرى".

فضحكتْ الساحرة، وقالت: "أيها الجنرال، إنِّني أعرف ما يدور في نفسك، وأفهم أنك تود أن تصير ملكا، وسوف يتحقق لك ذلك".

تلفَّتْ الجنرال متفرِّسا في المكان الذي ظهرت فيه الساحرة، وسألها: "من أخبركِ بكل هذا...؟؟؟"، أجابته الساحرة بكل ثقة: "ولكنَّ مُلْكَك سيزول عندما تتحرَّك الأشجار في الغابة نازلةً نحو القرى والمُدن"!!!

أجال الجنرال عينيه في الأشجار الباسقة الطويلة، ورأى امتدادها على مرأى البصر، وسأل الساحرة متعجبا: "كيف يُمكن لهذه الأشجار أن تتحرَّك؟!"، فأجابته بصوت هامس: "احترس، حتى لا تتحرك الأشجار أيُّها الجنرال"!! وأطلقت ضحكة عاليةً، واختفت قبل أن يرتد للجنرال طرفه وساد سكونٌ مُوْحِشٌ.

كان الملك وحاشيته قد أعدُّوا للجنرال العائد استقبالا كريما احتفالا بترقيته إلى حاكم للمنطقة الغربية.

وبعد مضي أكثر من عام، وقد نسي الجنرال كلام ساحرة الغابة حول انتزاعه للمُلْك، وتحرُّك الأشجار، سَمِع جلبةً، فإذا برسول مُتخَفٍّ جاء ليخبره بأنَّ الملك على وشك أن يصل إلى المدينة، وقد جاء مُتخفِّيا عن الأعداء في موكب بسيط، وأخفى جيشه بعيدا لكي يُفَاجئ العدو في غارة شعواء في الصباح الباكر.

هَرَع الجنرال لاستقبال مليكه، ولكنَّ رسولَ الملك أَسَرَّ إليه ألا يُبدي أي مظهر وأن يتلطف، فلا يُشْعِر أحدا بوصول الملك المفدَّى.

سَعد الجنرال بتشريف الملك، وأحسَّ بالفخر والاعتزاز لرؤية مكانته تتعزَّز يومًا بعد يوم في قلب الملك وحاشيته، ولكنَّ زوجته همستْ في أذنيه بنبوءة الساحرة، وأوحت له أنَّ تلك النبوءة على وشك أن تتحقَّق، وأن عليه أن لا يدعها تتسرب من بين يديه.

غضب الجنرال من ذلك الهمس، ورفض أن يغدُر بضيفه، وقد صنعه على عينه، ورأى منه حبًّا وكرمًا، ولكن الزوجة ذكَّرته بأنَّ الملك كان أيضا جنرالا مثله وقد قتل سابقه في ظروف مشابهة.

وبعد هزيع من الليل، أرسلت زوجة الجنرال وصيفتين جميلتين وخمرا وطعاما خفيفا لحارسي الملك النائمين مطمئنين؛ بعد أنْ لعبت الخمر ودلال الوصيفتين برأسيهما، وعندما استسلما لنوم عميق دخل الجنرال وزوجته إلى جناح الملك، وقتلاه بدم بارد، ثم أجهزا على الحارسيْن الغاطّيْن في سُباتٍ عميق بين أحضان الوصيفتين، وحملوهما إلى غرفة الملك؛ لكي يكتمل المشهد وتنطلي الحيلة، بأنهما قتلا الملك تحت تأثير الخمر.

ضمَّ الملك الجديد جيشَ الملك المغدور بعد أن وارَى جثمانه على عجل، وشنَّ هجوما مباغتا على أعداء المملكة، وحقَّق النصر الذي كان في حاجة إليه ليُخفِي جريمة قتله، ووزع المكافآت السخيّة على الجنود والمستشارين، ورحل فاتحا إلى العاصمة الملكية.

 ...

كان قصرُ الملك يُطِلُّ على بحيرة زرقاء جميلة تَسُرُّ الناظرين ومن خلفها تمتد سهول خضراء يانعة الأزهار كثيرة الثمار ثم تنتصبُ من ورائها غابة كثيفة الأشجار.

وكان الملك كُلَّما وقف على شرفة القصر وآجال النظر في البحيرة الزرقاء التي يسرُّ جمالها الناظرين، أخذه جمالها فتنسيه ما يعانيه من هموم، وما يثقل كاهله من صروف الدهر.

ولكن رؤية الغابة من بعيد تعيد إلى أسماعه صدى كلمات الساحرة الشريرة ونبوءتها المشؤومة حول زوال ملكه عندما تتحرَّك الأشجار القابعة خلف هذه السهول الجميلة؛ فينقبض صدرُه.. وذات ليلة جمع أعوانه ومستشاريه، وأسرَّ لهم النجوى.

فقال بعض المخلصين: "أيُّها الملك القدير، أَلِن جانبك للناس يحبوك، وتواضَع لهم يرفعوك، واخْفِض لهم جناح الذل من الرحمة، يكونوا لك دروعا في كل نازلة، فلا تخاف دركا ولا تخشى".

فأَنْصَت الملك، وقد مسَّت كلماتهم شِغَاف قلبه.

ولكنَّ بعض مستشاريه؛ وقد نال منهم الحَسَد فقلقوا على مكانتهم أن تضيع، فقالوا للملك: "إنَّ الناس إذا أَلَنْتَ لهم جانبك حسبوه ضعفًا، وإن تواضعتَ معهم ظنُّوه عجزًا، وتزداد مطالبهم، وتعلو أصواتهم، ويضيع الأمر بينهم، ويختلط الحابل بالنابل عندهم، وفي ذلك خطر على الملك، والأجدى من ذلك أن يدفع الملك الناس إلى الغابة فيصيبوا من حيواناتها ويقطعوا أشجارها، ويبنوا منها بيوتهم، وينشغلوا بمعايش تقيهم تقلب الصروف والأزمان، ويلقوا بما يفيض عن حاجتهم في نهر المدينة فيأخذه إلى البحرالبعيد. فإذا انشغلَ الناسُ بأمور حياتهم، تركوا الملك وشأنه، ومضوا في حال سبيلهم، وكدُّوا في سعيهم على ما يشغلهم من أمور الحياة".

أَخَذ الملك بما أشار عليه جلساؤه، وأصحاب الرأي منهم؛ فوجَّه الناس إلى الغابة، فقطعوا أشجارها، ورمُوا جذوعها في الأنهار فسدَّتْ مجاريها وضيَّقت طرقاتها، ففاضت على القرى، وأغرقت الزروع والمنازل، وهاجت الثعابين والعناكب خارجةً من الغابة تبحث عن مأوى جديد في منازل الساكنين.

فخاف الناس وهرعوا إلى الجبال القريبة؛ يلتمَّسون الأمن، وينشدون الأمان لأطفالهم وذويهم، فأقفرت القرى من أهلها، وعمَّ الفقر، وانتشر الجوع والخوف.

وما زال الملك ماضيًا فيما أشاره به عليه المنتفعون والمنافقون، ولما بَلَغ السيلُ الزُّبى، واكتظت الجبال بالساكنين والهاربين، جمعوا أمرهم فيما بينهم ثم أتوا جميعا كالسيل الجارف، واتخذوا من أشجار النخيل سلاحًا ولباسًا فجعلوا من أغصانها دروعًا، ومن جذوعها عصيًّا وسيوفًا، ونزلوا هادرين غاضبين نحو قصرالملك.

فما إن سمع الملك بأصوات الخلق منتشرين، وتناهت إلى أذنيه الجلبة والضوضاء، صعد إلى شرفته الملكية، فشاهد جموعا من الناس، وقد جعلوا من أشجار الغابة دروعا وقمصانا، قادمين من قِمم الجبال، وشاهد الأشجار وهي تتحرك صوب قصره، فأدرك أنَّ نبوءة الساحرة قد حانت لحظاتها الأخيرة.

تعليق عبر الفيس بوك