رحيل بدر بن عبدالمحسن بعد نصف قرن من التحليق "فوق هام الشعر"

أُفول "بدر الشعر السعودي".. وداعًا يا "ضي العيون"

 

 

الرؤية- مدرين المكتومية

 

رحل عن عالمنا، أمس السبت، الأمير والشاعر بدر بن عبدالمحسن آل سعود، بعد أن وافته المنية في العاصمة الفرنسية عن عمر ناهر 75 عامًا، إثر معاناة مع المرض.

ولُقِّبَ الشاعر الراحل بـ"مهندس الكلمة"، كما اشتهر على الساحة السعودية والعربية بأنه أحد أبرز رُوَّاد الحداثة الشعرية في الجزيرة العربية، وله مآثر عدة في وضع نصوص أدبية تجمع بين الغزل والفخر والرثاء والواقع الاجتماعي والسياسي للسعودية خصوصًا والعالم العربي عمومًا.

وتفجّرت موجات من الحزن على رحيل صاحب الرصيد الشعري الكبير، إذ لم يكن الشاعر الراحل شاعرًا عاديًا أبدًا، فما قدمه للساحة الشعرية والفنية والادبية يعناق السحاب.

والرحيل بكل أنواعه مُوجِع، وكلُ رحيلٍ له آلامه، لكن الأشد وطأة دائمًا هو ذلك الرحيل الذي لا عودة منه، والذهاب للعالم الآخر، العالم الذي لا نعرف عنه شيئًا، سوى أنه يأخذ أحبتنا.

وعندما يكتب أحدهم عن الموت والرحيل فإنه يحتاج لكلمات تُعبِّر عمّا يود البوح به، لكنه في كثير من الأحيان يعجز عن العثور حتى على حرف ليصف المشهد كما يشعر به، وذلك ليس نقصٍ في القدرة أو الموهبة، ولكن دليل عجزٍ على الإتيان بكلمات تعكس صدق المشاعر وجوهر الروح.

قصائد مغناة

بدر عبدالمحسن لم يكن مجرد شاعر يكتب كلماته من مخيلته الثرية المفعمة بالمشاعر والأحاسيس؛ بل كانت لديه الكثير من القصائد الشعرية المغناة، ولم تكن مجرد قصائد مكتوبة، وإنما كان البعض منها مواقف حقيقية لأشخاص وقصص عاشها معهم، ومنهم من سردها له لينزف قلمه واصفًا معاناتهم بكل صدق، ليقدم للأدب والفن أجمل القصائد في تاريخ القصيدة العربية الحديثة.

ولأنه لم يكن شاعرًا عاديًّا، فقد استطاع البدر أن يصل بكلماته للكثير من فناني العرب؛ حيث غنى له عبدالرب إدريس قصيدة "ليلة"، في حين شدا له الفنان طلال مدّاح عددًا كبيرًا من القصائد من بينها: "صعب السؤال- الموعد الثاني- عطني المحبة- عز الكلام- تذكرتك وآبي النسيان... وغيرها"، في حين غنى له محمد عبده الكثير من القصائد من بينها: "أبعتذر- صوتك يناديني- الله العالم- خريف- أنا سمعت اسمك- بحر العيون.. وغيرها".

ولأن الشاعد بدر عبدالمحسن كان قريبًا من الكثير من الفنانين فقد غنّى له الفنان عبادي الجوهر الكثير من القصائد من بينها "المزهرية- أنا أحبك- كفاك غرور- المرايا- ليل البعاد".

وغنى له عبدالله الرويشد وعبدالكريم عبدالقادر ونوال الكويتية، وعبدالمجيد عبدالله وخالد عبدالرحمن، وراشد الماجد، وكاظم الساهر، وصابر الرباعي ونجاة الصغيرة، وأصالة وماجد المهندس.

ولم يكن للبدر توجه واحد في كتابة القصيدة، وإنما كان يكتب في مختلف القضايا والأحداث، سياسيًا وأدبيًا وفنيًا واجتماعيًا، وفي الغزل والرثاء وفي كل ما يمكن أن يعبر عنه بقصيدة شعرية.

المنشأ والمسار

والأمير بدر بن عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود ولد في الرياض 2 أبريل 1949م الموافق 4 جمادى الآخرة 1368هـ، وهو شاعر سعودي عرف على الساحة السعودية والعربية وله مجهودات كبيرة في وضع نصوص أدبية ذات مستوى راقي تجمع بين الغزل والفخر والرثاء والواقع الاجتماعي والسياسي. وقد كرمه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود بمنحه وشاح الملك عبد العزيز عام 2019، وهو الابن الثاني من أبناء الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز آل سعود والدته والدته هي الأميرة وضحى الحمود الفيصل الحمود الرشيد الشمري.

ودرس الأمير بدر في كلٍ من السعودية ومصر؛ حيث التحق بمدرسة الملكة فيكتوريا في الإسكندرية، كما درس في بريطانيا وفي الولايات المتحدة. وتولى سنة 1973 رئاسة الجمعية السعودية للثقافة والفنون، وعُين رئيسا لتنظيم الشعر بالسعودية، وتم تكليفه لعدة سنوات بكتابة الأوبريتات الافتتاحية لعدة مهرجانات محلية أبرزها مهرجان الجنادرية.

ونشأ الأمير بدر في بيت علم وأدب؛ حيث كان والده مُحبًا للعلم والأدب، كما إنه شاعر مبدع ولديه مكتبة ضخمة تضم العديد من الكتب، ومجلس والده مليء بالعلماء والأدباء وكبار المفكرين في ذلك الوقت مما كان له الأثر البالغ في حب الأمير بدر للأدب والشعر. وزامل الأمير بدر بن عبد المحسن بعض الشعراء الكبار في المملكة منهم: محمد العبد الله الفيصل وخالد الفيصل وخالد بن يزيد ومحمد بن أحمد السديري وعبد الرحمن بن مساعد بن عبد العزيز آل سعود.

وبعد مسيرة حافلة في عالم الشعر امتد لأكثر لنحو 50 سنة، صدرت أعماله الشعرية الكاملة تزامنًا مع معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2022، وهي «هام السحب- شهد الحروف- ما ينقش العصفور في تمرة العذق- لوحة ربما قصيدة- رسالة من بدوي»، وذلك بإشراف مؤسسة بدر بن عبد المحسن الحضارية، وبمبادرة من وزارة الثقافة، ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتنفيذ شركة «المحترف السعودي»، التي تسهم بإشراف الهيئة، على ترجمة هذه الأعمال الشعرية إلى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، من خلال لجان متخصصة، لنقل تجربة الأمير بدر بن عبد المحسن الشعرية إلى العالمية.

وفي آخر تغريدة له على منصة "إكس" كتب بدر عبدالمحسن: " الناس ما همَّها ظروفكْ.. كود الذي يحزن لغمّكْ... وإن شلت حملك على كتوفكْ... بتموت ما أحدٍ ترى يمّكْ"، وكأنه بهذه الأبيات الشعرية ينعي نفسه، ويُسدل الستار الأخير على مسيرة حافلة بالعطاء الشعري، مودعًا مُحبيه برحيله الهادئ دون صخبٍ أو ضجيجٍ.

"بتغيب شمسي".. عندما يتنبأ الشاعر برحيله قبل أوانه!

 

نُشرت قصيدة للأمير ‎بدر بن عبدالمحسن كتبها أثناء مرضه قبل وفاته مخاطبًا فيها أخيه الأمير سعود بن عبدالمحسن، بعنوان "لا بدها يا سعود بتغيب شمسي".

وجاءت كلمات القصيدة على النحو التالي:

صوتي تجرح ما بقى غير همسي

وعسى حروفي اليوم توفي بغرضها

کن السنين استكثرت طول عرسي

سبعين غيري ما حصلّه بعضها

ولا بدها يا سعود بتغيب شمسي

ذي سنة رب الخلايق فرضها

ولاعلها حريتي بعد حبسي

ولا علي ألقى عند ربي عوضها

لولاي أحبك ما تذكرت نفسي

ولا انتبهت لعجزها أو مرضها

ومادام أشوفك طاب حزني وأنسي

وما همني حلو الحياة ومضضها

لعل قبل سعود لحدي ورَمسي

أخوي من أثرى حياتي ونهضها

ويا من ذكرني ما تذكرت منسي

ذكرت من عد النجوم وقبضها

أنا الذي لو تلمس الريح خمسي

كان السحاب أرخى العباة ونفضها

هذا الشجن حرثي والأيام غرسي

قصيدتي يبطي الزمن ما نقضها.

تعليق عبر الفيس بوك