شهداء الروضة.. واللامركزية في اتخاذ القرار

 

 

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

 

اللامركزية تعني المشاركة الواسعة في صنع القرار على مختلف المستويات في إطار السلطة التنفيذية أو الدولة الوطنية، فلا يمكن أن يكون القرار الوطني مُحتَكَرًا من كبار المسؤولين أو من اختصاص المنظومة الإدارية العليا؛ بل يجب أن تُمنح الفرص للمستويات الدنيا في التسلسل التدريجي للموسسة أو الوزارة، وذلك بهدف المشاركة في توزيع الاختصاصات على مجموعة كبيرة من الأشخاص الذين هم في الميدان وعلى احتكاك وإطلاع على الأمور عن قرب.

ومفهوما المركزية واللامركزية، يعودان في الواقع إلى ظهور الدولة والإمبراطوريات عبر التاريخ؛ فقد مرّت الحكومات القديمة منها والمعاصرة بفترات ومراحل من المركزية واللامركزية في مختلف الدول والشعوب في أنحاء العالم. والدول التي تتولى فيها حكومات ذات طابع استبدادي هي التي تسيطر على القرار في قمة السلطة وتحتكره لنفسها دون الشركاء الآخرين، ويترتب على ذلك في العادة ضياع حقوق الناس وتهميش المجتمع وحرمان الناس من صياغة قرارات رشيدة تحقق الطموحات وآمال الأجيال الصاعدة في الحياة الكريمة والمستقبل المشرق.         

ومنذ تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في هذا البلد العزيز، انتهج اللامركزية في إدارة أمور الدولة، فقد وزّع الاختصاصات وكذلك الموارد المالية على المحافظات، لكي يتولى المحافظون والمجالس البلدية والمجتمع المحلي إدارة شؤونهم بأنفسهم من خلال تنفيذ المشاريع التنموية حسب الأولويات في تلك الولايات. وعلى الرغم من ذلك هناك بعض التحديات التي تواجه هذا النوع المتقدم في فن الإدارة المعاصرة في مختلف مناطق السلطنة، فهناك ضبابية لدى البعض في فهم الدور المنوط به؛ مما انعكس ذلك على أداء بعض المجالس البلدية في إنجاز الأعمال المطلوبة بأسرع وقت ممكن.

كما إن اللامركزية يجب أن نوسع خطاها وتطبق في مختلف الوزارات والهيئات الحكومية في محافظات السلطنة خارج العاصمة مسقط. وقد تابعنا خلال الأسبوع الماضي الأحداث المؤسفة في مدارسنا في شمال الشرقية وتحديدًا في ولايتي المضيبي وإبراء؛ حيث جرفت السيول العارمة والأدوية 19 شخصًا معظمهم من تلاميذ مدرسة الروضة في سمد الشأن.

كان من المفترض أن يكون قرار تعليق الدراسة من اختصاص المديرية العامة للتربية والتعليم في شمال الشرقية وليس الوزارة في مسقط، وذلك لمرونة القرارات وإنقاذ الأرواح؛ فأهل مكة أدرى بشعابها من غيرهم. وقد تابعنا عبر وسائل الإعلام مساء يوم الأربعاء خبرًا عاجلًا مفاده "نظرًا لتأثيرات الحالة الجوية؛ فقد تقرر منح مديري عموم المديريات التعليمية في محافظات سلطنة عُمان كافة صلاحيات تحديد آلية العمل بمدارس كل مُديرية تعليمية على حدة، ليوم غد الخميس الموافق 18 أبريل 2024، بعد تقييم أوضاع كل مدرسة، بما يكفل سلامة الطلبة والهيئة التعليمية".

الكل يتوقع أن يكون هناك قرار واضح ودائم لمنح اختصاصات كاملة للمسؤولين في المحافظات؛ بل نقترح أن تتوسع هذه الصلاحية أيضًا لتشمل مديري المدارس، ففي بعض المحافظات مثلًا توجد مدارس بعيدة جدًا عن المديريات كما هو الحال في محافظة ظفار؛ إذ تبعد بعض المدارس عن مقر المديرية أكثر من 300 كيلومتر في الصحاري وأعالي الجبال. وتوسيع الصلاحيات يكون انطلاقًا من مبدأ اللامركزية الذي نادى به وأقره قائد هذا البلد منذ فترة مبكرة، ليس في شأن المحافظات فقط؛ بل في مختلف الإدارات الحكومية لجعل الجهات المستفيدة ويهمها ولها علاقة مباشرة بتلك القرارات أن تشارك وتعمل على تصويبها للمصحلة العامة.

وفي الختام.. يجب الاعتراف بأن هناك صناع قرار تعجبهم المركزية الشديدة، ويفضلون أن تبقى القرارات رهن مكاتبهم وأدراجهم المؤصدة ومكاتبهم المغلقة، فيأتي المواطن من أقاصي الجنوب من ظفار على بعد أكثر من 1000 كيلومتر، وكذلك من مسندم في أقصى الشمال للسلطنة؛ ليحظى بتوقيع على معاملة من الوزير أو الوكيل الفلاني في مسقط!! مُتكبدًا عناء السفر وتكاليف الإقامة والتذاكر. صحيحٌ أنه منذ عدة سنوات انتهجت بعض الوزارات الخدمية سياسة منح بعض الصلاحيات لمديري العموم في المحافظات، لكن عندما يقابل المواطن المدير العام أو المسؤول المختص في كثير من الأحيان يُفضِّل ألّا يستخدم تلك الصلاحيات الممنوحة له! فقد يرحل المراجعون إلى الوزارة في مسقط، وهذا يعني أننا ما زلنا بعيدين عن اللامركزية بسبب عدم الإدارك الحقيقي من المسؤولين لهذا النهج الرشيد، فيما يُعرف بـ"الإدارة المتطورة"، والتي نراها بوضوح في أروقة الحكومات المتطورة من حولنا.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري