محطات عاجلة (4)

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

المواقف العُمانية الثابتة

الثبات على المبادئ الدولية سمة للدول الراسخة العميقة ذات التاريخ المشهود والمعلوم، لأن قضية الثبات تنطلق من فلسفة قائمة على تقدير حقيقي لقيمة هذه الدولة ورسوخ مكانتها بين الأمم الأخرى، ومعرفة تامة لما تُمثله هذه الدولة من ثقل إقليمي ودولي، وهذا حال سلطنة عُمان التي تمتد جذورها في أعماق التاريخ، بلد حضارة مجان ومزون وإمبراطوية الشرق الأفريقي، وسواحل آسيا، وسادة المحيطين، وملتقى التجارة في العصور السابقة.

هذا التاريخ الذي تتكئ عليه سلطنة عُمان هو مصدر الثبات على المواقف والمبادئ، فمن يملك كل هذا التاريخ يعرف أن مواقف الدول لا تبنى على الأهواء والظروف الراهنة، وأن إدارة الدول لا تستقيم بمنطق التقلب في المواقف وتغير المصالح، والتكتلات الوقتية التي تستهدف المكاسب الآنية.

إنَّ الثبات على المواقف يكسب الدول الاحترام والتقدير من الجميع حتى الأعداء، بينما التقلب والتمصلح يجعل الدول مثار سخرية وسوء تدبير وتقدير من الأصدقاء قبل الأعداء، وهذا أمر يجب أن ندركه، فقد أثبتت الأحداث أن سلطنة عُمان كانت الرقم الصعب ورأس الحكمة التي لجأ إليها العالم وألقى بثقل مشاكله عليها وأستنجد بها لتكون صمام أمان لنزع فتيل الصراعات في المنطقة، ولقد حافظت قيادة هذا الوطن الحكيمة على هذا النهج إيماناً منها بأنَّ الوضوح والصدق والدعوة للسلام والتسامح والتعايش هي النهج الذي سوف ينقذ العالم من الصراعات والحروب وهي المدخل نحو عالم أفضل.

ولأنَّ الثبات على المبادئ له ضريبة فقد استهدفت بلادنا خاصة في الفترة الأخيرة مع موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، استهدفت من خلال حملة شعواء يقوم بها مغرضون ساءهم أن تحافظ هذه البلاد على مبادئها ومواقفها ورفضها المستمر للعبة المصالح، فوجهوا سهامهم بغية النيل من رموزها السياسية والدينية واستخدموا كل الوسائل وخاصة الإلكترونية منها لزعزعة ثقة أبناء هذا الوطن الأبي، ولكن خاب مسعاهم، وتحطمت أحلامهم، فهذا الشعب والحمدلله متسلح بقيم ومبادئ الدين الحنيف ويملك من المعرفة والثقافة والوعي ما يمكنه من التمييز لكل ما يتلقاه، ويفند من يمكرون به وبوطنه.

لقد انتشرت الحسابات الوهمية التي تحاول زرع الفتنة، وتسعى لفت اللحمة الوطنية وتدعو للخروج، مستهدفة إثارة الفوضى وخلق الصراع بين أبناء المجتمع، وحقيقة الأمر ورغم الانزعاج من هذا، إلّا أنه في بعض الأحيان فإن مثل هذه الدعوات والمحاولات تكشف لنا جوانب إيجابية في مجتمعنا العُماني المتماسك، فما نشاهده من ردود على هذه الدعوات الخبيثة شيء يثلج الصدر ويبهج النفس، فقد انبرى أبناء سلطنة عُمان الواعيين لهذه الدعوات وتصدوا لهذه الحسابات التي تثير الفتنة وفضحوها؛ بل وكشفوا مصادرها، وبينوا سوء نواياها، وهؤلاء هم أبناء سلطنة عُمان الذين نشأوا على حب هذا الوطن وارخصوا أرواحهم فداء له ولترابه، ولن ينحني وطن به مثل هذا الشعب العظيم الذي يعرف قيمة وعظمة وعراقة هذه الأرض الطيبة.

التعليم قاطرة التنمية

عندما نسترجع قصص النجاح وحكايات التحول لعدد من الدول، ونبحر في مسيرة نجاحها نجد أن المرتكز الذي قامت عليه هذه النماذج هو التعليم، وحتى لا ندخل في جدليات كثيرة سوف أركز على ثلاث دول حدثت بها ثورة اقتصادية وتنمية حولتها من دول على حافة الفناء إلى الريادة العالمية بفضل التعليم، وقد اخترت هذه الدول كونها تمثل ثلاث حقب زمنية مختلفة، ولذلك دلالة هامة وهي أنه مهما تغير الزمن يظل التعليم هو قاطرة التنمية.

هذه الدول الثلاثة هي: اليابان وماليزيا ورواندا؛ حيث خرجت اليابان مدمرة من الحرب العالمية الثانية بعد أن القيت عليها القنابل النووية، خرجت هذه الدولة كومة ركام فقيرة الموارد مسحوقة الإرادة والكبرياء، لكنها قررت أن تتعلق ببصيص أمل الحياة، فكان قرارها الأول التعليم، لقد غيرت اليابان كل شيء في تعليمها، من مناهج ونظام ومدارس وكل شيء حتى عادت للحياة في ظرف سنوات قليلة، واليوم تقف اليابان في سلم التكنولوجيا في العالم.

أما ماليزيا فقد وجدت نفسها غارقة في مشكلات لا حصر لها من فقر وديون ومشاكل اجتماعية وظروف سياسية سيئة ومصادر دخل محدودة، ولكن مع مطلع الثمانينات وبالتحديد في العام 1981م وصل مهاتير محمد لمنصب رئيس الوزراء وكما قال عن نفسه إن الاقدار ساقتني لأكون في هذا المنصب، وفور تسلمه السلطة قام بنهضة وثورة في التعليم، حيث عمد إلى تغير المنظومة التعليمة كما خصص موازنات كبيرة لابتعاث الطلبة الماليزيين للدراسة في أرقى الجامعات العالمية، وخلال فترة بسيطة وجدت ماليزيا نفسها من الدول الصناعية الرائدة.

في حين أن رواندا تلك الدولة القابعة في منطقة البحيرات العظمى وسط أفريقيا التي أنهكتها الحرب الأهلية والصراعات العرقية بين الهوتو والتوتسي وجعلتها دولة فقيرة معدمة حتى مطلع الألفية الجديدة، عندما تولى بول كاغامي رئاسة البلاد وأحدث نقلة نوعية فيها بدأها من التعليم، واستثمر عوامل النجاح والمميزات التي تملكها هذه الدولة، ومن معاناة الحروب والفقر نقل رواندا إلى الريادة العالمية في الاقتصاد والفضاء، وكل ذلك من خلال الثورة التعليمية.

هذه النماذج الثلاثة تستحق الدراسة بتمعن، واستخلاص الدروس منها والاستفادة من الخطوات التي قامت بها هذه الحكومات حتى تخرج دولها من مستنقع التخلف والجهل والفقر إلى قمة التطور، وعلينا أن نؤمن أن التعليم لدينا يجب أن يأخذ زمام المبادرة حتى نحقق أهداف التنمية، وعلينا أن نوجه تعليمنا إلى الوجهة التي تمكننا من خلق التغيير والتحول، وهذا أمر يحتاج إلى إعادة النظر في واقع منظومتنا التعليمية، ودراستها بكل تجرد ومصداقية، حيث إن الحلول تنطلق من خلال التعليم الجيد الذي يستهدف أركان التنمية، وللحديث بقية في منظومتنا التعليمية بإذن الله.

تعليق عبر الفيس بوك