سلطان بن محمد القاسمي
قل عنها مشكلة، أو معضلة، أو حتى أزمة، هي فعلا كذلك.. إنها مسألة الخريجين بلا فرص عمل، لا سيما تخصُّصات مُعيّنة، يتخرج فيها مئات الطلبة سنويًا، ثم لا تعيين، وأخص من تلك التخصصات- كمثال وليس على سبيل الحصر- الفنون التشكيلية وعلم الاجتماع؛ فهناك مئات الطلبة من هذه التخصصات يتخرجون سنويًا، ثم يُقال لهم إنه لا توجد درجات مالية!
أقول.. إنَّ الجامعات والمؤسسات الأكاديمية والتعليمية حينما تتخذ قرارًا بفتح برنامج أكاديمي أو تخصص جديد، نفترض أن ذلك تم بناءً على خطط تطويرية تُعتمد من قبل الوزارات المعنية أو بموافقتها مباشرة. فعادةً ما تكون الوزارة أو الجامعة هي المسؤولة الرئيسة عن تصميم هذه البرامج واعتمادها وفتح التخصصات الجديدة، وتستند هذه القرارات عادةً إلى دراسات استقصائية تُجرى بهدف فهم الحاجات الفعلية للمجتمع أو احتياجات سوق العمل. فعلى سبيل المثال، قد تقوم الجامعة بتحليل احتياجات السوق المحلي لتقديم برنامج أكاديمي جديد في مجال الهندسة أو التكنولوجيا الحيوية، أو قد تستجيب لمطالب الصناعة المحلية بفتح برنامج ما لضمان توافق البرامج الأكاديمية مع تطلعات المجتمع واحتياجات سوق العمل.
فحينما يتم فتح قسم أكاديمي مثلًا في الإعلام، هذا يعني أنه تم بعد دراسة لحاجة المجتمع والسوق إلى متخصصين في الإعلام، ولأن هناك فعلًا مؤسسات كثيرة بدأت الآن تنبثق، وهي بحاجة إلى متخصصين في هذا البرنامج، فضلًا عن المؤسسات الحكومية أو الخاصة كافة التي تستجد لديها الحاجة إلى هذا الاختصاص؛ سواء كان الإعلام الرقمي أو التصميم أو غيره، وهكذا كل التخصصات مثل الفنون التشكيلية والرسم والديكورات وعلم الاجتماع والتغذية؛ فهذا ما يُفترض أن تُحقِّقه الجامعات وتُقرّه الوزارات بناءً على حاجة حقيقية للمجتمع أو سوق العمل؛ بحيث يكون الخريجون من هذه التخصصات أمام احتمالية كبيرة لحصولهم على فرص عمل.
لكنَّ الواقع الراهن للجامعات والخريجين يكشف عن غياب التوافق بين البرامج الأكاديمية المقدمة والفرص الوظيفية المتاحة. ويُلاحظ وجود خريجين في تخصصات متنوعة مثل الفنون التشكيلية، وعلم الاجتماع، والترجمة، يواجهون صعوبة في العثور على فرص عمل بعد سنوات من التخرُّج، ومنهم من قد مر على تخرجه أكثر من عشر سنوات ولم يتمكن حتى الآن من إيجاد فرص عمل ملائمة، نذكر على سبيل المثال: خريج حاصل على شهادة البكالوريوس في تخصص علم الاجتماع، من عام 2009، وإلى اليوم لم يحظ بفرصة عمل له في سلطنة عمان، وقد تقدم للعديد من الوظائف المعلنة، وغير المعلنة، وأجرى العديد من الاختبارات والمقابلات، لكنه لم يتعين.
كما إن بعض خريجي الفنون التشكيلية في كلية التصميم في سلطنة عُمان يعيشون نفس المعاناة؛ حيث إنهم بعد التخرج قاموا بالالتحاق بجامعة العين في دولة الإمارات للحصول على التأهيل التربوي ليكونوا على أتم الاستعداد في العطاء في المدارس ويكونوا تربويين ناجحين، كما إنهم قاموا باجتياز الاختبار التربوي من جامعة السلطان قابوس كذلك، وهذا خير دليل على أنهم يستحقوا أن يكونوا في السلك التربوي ومباشرة العمل بعد 6 سنوات من الانتظار والتأهيل، لكن للأسف ما زالوا حتى الآن في وضع الانتظار مرة أخرى.
ما يُثير التساؤلات هو السبب وراء هذا الوضع المقلق، هل يكمن الخلل في العدد الكبير للمنافسين على الوظيفة، والمطلوب شخص واحد فقط؟ وهذه في حد ذاتها إشكالية أخرى؟ أم إن المشكلة في وجود مثل هذه البرامج الأكاديمية؟ هل تم تحديد هذه البرامج بناءً على احتياجات حقيقية لسوق العمل والمجتمع؟ وإذا كانت هناك حاجة فعلية، لماذا لا يتم توفير فرص العمل المناسبة؟ أم السبب إلى المنافسة الشديدة من قبل العمالة الخارجية؟ أم إن هناك تقليصًا في الطلب على هذه التخصصات في المؤسسات الحكومية؟
علاوة على ذلك، هل السبب في هذا الوضع يعود إلى عدم وجود خطة شاملة وملبية لطموحات المجتمع واحتياجاته؟ يبدو أن هذا السؤال يحتاج إلى دراسة دقيقة وتحليل شامل لتحديد الأسباب الفعلية والتصورات المستقبلية.
هل هناك خطة فعلية عند وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار أو وزارة التربية والتعليم أو عند الجامعات أو الكليات بحيث أن عدد الخريجين يتناسب مع الحاجة الفعلية. على سبيل المثال: هل يُعقل أن خريجي الفنون التشكيلية يزيد بدرجة كبيرة سنويًا ولا يجدون لهم فرصة عمل ولو بربع العدد أو نصفه. صحيح أن الواحد يسعى وينتظر وأن الوظيفة لا تأتي بسهولة، ولكن على أقل تقدير خلال سنوات تخرجه وبعد تخرجه بسنة أو سنتين أو ثلاث سنوات المهم يجد له فرصة عمل في اختصاصه.
ماذا يمكن أن نصنع إزاء هذه الإشكالية؟
لا بُد لمؤسسات التعليم العالي أن تقدم حلولًا وتضع خطة حقيقية وتراجع برامجها الأكاديمية، كما إن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار معنية بالتنسيق مع الوزارات الأخرى عندما تعتمد هذه التخصصات وتتيح القبول الموحد، وينبغي أن يكون هذا مبنيًا على رؤية حقيقية، ودراسة واقعية، وحاجة فعلية، بحيث يصبح واضحًا أين يوضع خريج كلية الفنون التشكيلية- على سبيل المثال- بعد التخرج بسنة أو سنتين أو حتى أربع سنوات، ولذا ينبغي أن تكون عند الوزارة خطة استيعابية بقدر ما تستقبل الجامعات أو قريبا من ذلك، وينبغي أيضا أن تكون للجامعة دراسة لسوق العمل أو المجتمع.
كما ينبغي أن تضع الجهات المعنية في التعيين في الحسبان أن التعيينات تكون لأصحاب الاختصاص، لا أن يتعين فيها اختصاصات أخرى ويُحرم صاحب التخصص من حقه! من المهم ان نحترم التخصص وتكون هناك رقابة حقيقية على أن الذي يشغل المنصب فعلًا يحمل الاختصاص الأصيل، كما إن الشركات الخاصة يجب أن تكون لها خطة معتمدة من قبل الجهات المختصة في تعيين الخريجين سنويًا.
إنَّ معالجة هذه القضية تتطلب تعاونًا شاملًا وجهودًا متواصلة لضمان توافق حقيقي بين العرض الأكاديمي والطلب الوظيفي، وبالتالي توفير فرص العمل المناسبة وتعزيز التنمية الشاملة للمجتمع.